تغيير السلوك .. ونظرية الصاروخ

في عام 1768م قاد المستكشف الإنجليزي جيمس كوك رحلة استكشافية استعمارية إلى "أستراليا" ، أعلنت فيها بريطانيا ملكيتها لهذه الأراضي الجديدة ونيتها لبناء مستعمرة هناك .
أستراليا كانت أرضاً قاحلة تقطنها بعض القبائل البدائية وتنتشر فيها الأفاعي والعقارب ، لذا لم يرغب البريطانيون بالهجرة إليها واستيطانها ... ولا تصح مستعمرة من دون سُكان يعمرونها ، وعلى ذلك فَـعَّلت بريطانيا الخطة باء وقررت إرسال كل المساجين إلى هناك بمختلف جرائمهم ، فحتى الذي يسرق قطعة خبز يتم ترحيله إليها !!! .
وكانت الحكومة البريطانية تدفع أموالاً لأصحاب السفن التجارية لنقل المساجين إلى هناك ، ويزداد المبلغ بازدياد عدد المساجين ، وهذا ما جعل مُلاك السفن يشعرون بالجشع ويحاولون نقل أكبر عدد ممكن .
السفن التي لا تتسع بالعادة لمئة مسافر كانت تحمل في جعبتها 300 سجين ، وهذا ما ترتب عليه وضع صحي كارثي نظراً لحجم الاكتظاظ وقلة الرعاية الصحية والمؤونة ، مما أسفر عنه وفاة الكثير من المساجين ، فمثلاً توفي في أحد السفن 111 سجين من أصل 300 !! .
امتعض واعترض عامة البريطانيون على هذا الإجرام الذي يمارسه قباطنة السفن بهؤلاء المستضعفين ، فتظاهروا ضدهم ، واستجابت الحكومة لهم وقررت منح مؤونة غذائية ودوائية إضافية للسفن كي يتم بذلها على المساجين .
إلا أن هذا لم يغير جشع القباطنة بل زادهم طمعاً ، وأصبحوا يحتفظون بالمؤونة لأنفسهم ، كي يبيعونها على قبائل أستراليا البدائية ، واستمر وفاة المساجين في الرحلات .
بريطانيا كانت تخشى على أرواح المساجين ... فهم من سيعمرون المستعمرات ، ووفاتهم ليس في مصلحتها إطلاقاً ، لذا قررت أن تتخذ نهج جديداً مع مُلاك السفن ، وأصبحت تدفع للقباطنة مبلغاً إضافياً لكل سجين يصل حياً ، وتخصم مبلغاً ضخماً من أجرة التوصيل نظير كل حالة وفاة تحدث على السفينة .
بعد تطبيق هذه السياسة انطلقت أول سفينة وعلى متنها 322 سجين ، لتصل إلى أستراليا ولم يمت منها إلا سجين واحد فقط .. وهذا تَحسن مذهل !! .
لقد عزفت الحكومة البريطانية على ذات الوتر الذي يغني به القباطنة ... ألا وهو حافز الربح ، وهذا خَـلَـقَ تغيراً جذرياً في سلوكهم الإجرامي الجشع ، وأصبحوا أكثر حرصاً على الأرواح .
سيدي القارئ ... أ تعرف آليةً كهذه تُغير من سلوك الآخرين ؟
أحياناً نحاول أن نغير السلوك بالوعظ والنصيحة وإيضاح الحقائق لكننا نفشل في ذلك ...
كم مرة قرأت أو سمعت نصيحةً أو إعلاناً يتحدث عن خطر استخدام الهاتف أثناء القيادة ؟ كثيراً أ ليس كذلك ؟
حسناً ... كم مرة استخدمت هاتفك أثناء القيادة هذا الأسبوع ؟ (حط عينك بعيني أشوف 😒)
أ رأيت ؟ نحن نعرف ما يتوجب علينا فعله ... لكن هناك فجوة بين معرفتنا وتطبيقها ، ومخطئ من ظن أن إعطاء النصيحة والمعلومة فقط سيغير من هذا السلوك جذرياً .
في أمريكاً مثلاً تنفق الحكومة سنوياً مبلغ 700,000,000 دولار على الحملات التوعوية لمحو الأمية المالية ، والتي تعني امتلاك الناس المعرفة والمهارة التي تخولهم من اتخاذ قرارات اقتصادية مدروسة وصحيحة ... فهل نفع ذلك ؟
في دراسة استقصائية قامت بها الحكومة مؤخراً تبين أن الذين قرأوا منشورات الحملات وحضروا ندواتها تعلموا بشكل جيد قواعد الاقتصاد ، إلا أن نسبة تطبيق ما تعلموه على واقعهم المعيشي هو 0.1% فقط .
إذن ... ما الوسيلة المثلى لتغيير السلوك ؟
إنها نظرية الصاروخ ...
لنفرض أن سلوكنا الحالي هو الأرض والسلوك المثالي الذي نتمنى الوصول إليه هو القمر ، ولديك صاروخ فضائي ... ما الذي يحتاجه الصاروخ كي يصل إلى هناك ؟
سيحتاج إلى الوقود الذي يدفع الصاروخ ، وتقليل مدى احتكاكه بالهواء لينطلق بسلاسة دون معوقات .
إن سلوك البشر لا ينبع من فراغ ، فالوقود الذي يحركهم نحو كل شيء هو "الرغبة أو الخوف" ، فإما رغبة في الحصول على المكافآت بمختلف أشكالها ، أو خوفاً من العقوبات بشتى أنواعها ، وهو ما يسميه العلماء بـ"الدوافع" .
ولو أردت تحريك سلوك أي إنسان نحو وجهة ما ، غذِّه بالوقود - الدافع - الذي سيحركه نحو الهدف ، فإما دافع إيجابي رغبة بكسب المكافآت ، أو دافع سلبي خوفٌ يتجنب به العقوبات .
فلو كان سلوكه بسبب دافع الرغبة بالمكافأة ، وأردت تغييره ، أخفه من العقوبة ، والعكس صحيح ، تماماً كما فعلت بريطانيا مع القباطنة المولعين بالربح ، أشعرتهم بالخوف من الخسارة .
وعلى هذا قس ما سواه ، وتأمل في كل سلوك تريد تغييره ، سواء سلوكك أو سلوك غيرك ، ستجد خلفه دافعاً ، وتغيير السلوك يكون من خلال تغذية الدافع .
ويمكننا تقسيم دوافع البشر إلى ثلاثة فئات ... وجميعها قد تكون سلبية أو إيجابية .
أولاً الدوافع الاقتصادية والمادية / وهي أكثر الدوافع تأثيراً على سلوك الإنسان ، وتأتي غالباً بصورة أموال وممتلكات مادية ومنافع ومُتعٍ ذاتية ، يحاول الإنسان اكتسابها أو تجنب خسارتها .
في الصين مثلاً كان العديد من الأطباء يحاولوا اقناع النساء بالولادة القيصرية - دون ضرورة طبية لذلك - كي يربحوا المزيد من الأموال ، لأن تكلفتها ضعف تكلفة الولادة الطبيعية ، بَـيـدَ أن ذلك أسفر عن حالات وفاة أو تشوهات للكثير من المواليد والأمهات .
هذا السلوك اللاإنساني الذي مارسه الأطباء منبعه الدافع المادي ، ولهذا قامت الحكومة الصينية بتوحيد سعر الولادة القيصرية والطبيعية ، مع عقوبة مالية مشددة لكل طبيب يقوم بعملية قيصرية دون ضرورة طبية .
وبالتالي تقلص عدد العمليات القيصرية بشكل مذهل حقاً .
ثانياً الدوافع الاجتماعية / وهي رغبتنا في أن نكون مقبولين ومحبوبين أكثر من قِبلِ الآخرين ، وبالتالي نقوم بالأعمال التي يحبذها المجتمع وتقربنا منهم ، ونتجنب السلوكيات التي ينزعج منها الناس وتنفرهم منا .
وهذا يُفسر لك لماذا يتغير شيء من سلوكنا إن كنا محاطين بالآخرين ، بل وكما يقول عالم النفس الاجتماعي السيد هاري سوليفان Harry Sullivan في نظريته الشهيرة "وهم الفردية" : إن الفرد يسلك السلوك الذي يتوقعه منه الآخرون ، وليس للفرد شخصية ثابتة ، بل هي متغيرة ، ولكل منا شخصيات كثيرة وسلوكيات مختلفة بحسب طبيعة العلاقة مع الآخرين وأهميتهم النفسية لدينا .
وفي دراسة بريطانية راقب القائمين عليها سلوك الناس ومدى حفاظهم على نظافة حديقة "هايد بارك" ، وكان غالبية الناس يميلون إلى المحافظة على نظافة الحديقة عندما يكون هناك أحد يجلس بالقرب منهم ، إلا أنهم يتهاونون بعض الشيء في نظافتها عندما يكونوا لوحدهم . (أعرف ناس لو الملكة إليزابيث قاعده يمه هم راح يزبل 😒)
ثالثاً الدوافع الأخلاقية / وهي رغبتنا في القيام بالفضائل والخيرات وتجنب الرذائل والشرور ، وعادة ما تكون هذه الدوافع مرتبطة بالدين الذي نؤمن به أو التربية التي نشأنا عليها ، فنسعى لنكون الصالحين وذوي الجنة ، ونتجنب أن نكون آثمين ومن أهل النار .
وتستطيع أن تقرأ التاريخ وترى كيف غَـيَّـر الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله الكثير من السلوكيات المنحرفة في مجتمع الجزيرة العربية آنذاك ، كوأد البنات والربا والزنى وشرب الخمر وغيرها من السلوكيات المنحرفة ، عندما حببهم بالخير والأخلاق الحميدة مصرحاً : "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ، بالإضافة لوعدهم بالجنة أو وعيدهم بالنار كُلاً بحسب فعله .
لننتقل إلى النقطة الأخرى من نظرية الصاروخ ... تقليل الاحتكاك ، وإليك هذه الواقعة .
كان هناك صيدلية أمريكية على الإنترنت توفر الدواء لأصحاب الأمراض المزمنة في مختلف الولايات الأمريكية ، وكل ما يجب على المرضى فعله هو التسجيل على موقع الصيدلية وإعطائهم صورة عن الوصفة الطبية ، فتقوم الصيدلية بتوصيل الدواء إلى منزل المريض كل ثلاثة أشهر .
تعاقدت الصيدلية مع شركة جديدة مختصة بأدوية الأمراض المزمنة ذات جودة أعلى وسعر أرخص من نظرائها ، وأرادت الصيدلية من المرضى أن يوافقوا على التغيير إلى الشركة الجديدة ... وفكرت بالدوافع الاقتصادية كوسيلة اقناع .
فأرسلت الصيدلية نموذجاً إلى مرضاها كي يكتبوا فيه موافقتهم على التغيير ثم يعيدوا إرساله بالبريد ، وستكون أدويتهم مجانية للأشهر الثلاثة القادمة .
يا له من عرض رائع وتوفير مميز !!
برأيك كم نسبة المرضى الذين كتبوا النموذج وأعادوا إرساله ؟
فقط 0.9% من المرضى !!!! ... لقد كان إحباطاً للقائمين على الصيدلية .
لذا قررت الصيدلية إرسال عرض مغري يجعل المرضى يتهافتون على التغيير ، وقالت لهم إن كتبتم الموافقة وأعدتم إرسالها ستكون أدويتكم مجانية لمدة عام كامل . 😍
الآن ... ما هو توقعك لنسبة المرضى الذين كتبوا موافقتهم ليحصلوا على هذا العرض ؟
8% فقط من المرضى فعلوا ذلك !! .
اتجه القائمون على الصيدلية إلى دكتور الاقتصاد السلوكي دان آريلي Dan Ariely ليجد لهم حلاً ، فهم طبقوا ما يقوله العلم " إذا أردت التغيير فلامس الدافع " ، وقدموا عرضاً رائعاً إلا أنه لم يجدي نفعاً . ( اي والله مصخره ما ينسكت عنها يا أبو آريلي 😜)
الدكتور دان آريلي وَضَّـحَ لهم أن المعضلة ليست في التوفير والدافع بل هي الفرق بين أن لا تقوم بشيء وتستمر في أخذ دوائك المعتاد بالسعر المعتاد ، وبين أن تقوم بشيء وتكتب الموافقة يدوياً وتعيد إرسالها بالبريد وبالتالي تحصل على التوفير .
وغالبية المرضى فضلوا منطقة الراحة وعدم القيام بشيء مقابل القيام بعدة أشياء للحصول على التوفير .
اقترح الدكتور آريلي على الصيدلية أن ترسل إلى مرضاها نموذجاً يحتوي خانتين إما الموافقة على الشركة الجديدة أو الاستمرار على القديمة ، وترفق معه رسالة مفادها "نرجو منكم كتابة النموذج أو سنضطر آسفين لوقف الدواء عنكم" .
وهنا اضطر المرضى للقيام بتعبئة النموذج كي لا يتوقف عنهم الدواء ، وبالتالي اختار 97% من المرضى التمتع بالعرض المجاني والانتقال إلى الشركة الجديدة . ( كفوووو ما يجيب إلا رجالها ... أبو آريلي 😜 )
الوقود الذي ضخته الصيدلية في الصاروخ في بادئ الأمر كان التوفير والعرض المجاني ، إلا أنه لم يصل إلى السلوك المطلوب لأنه كان هناك احتكاك ومقاومة المتمثلة في كتابة النموذج وإعادة إرساله .
أدمغة البشر مفطورة على الكسل ، وأحياناً يكون الاحتكاك والمتطلبات تفوق حجم الدافع وروعته ، وهو تماماً ما حدث مع عرض الصيدلية .
لذا إن أردت تغيير السلوك وائم بين قوة الدافع وصعوبة السلوك ، فلا يصح أن تطلب من ابنك الذي في عمر 10 سنوات مثلاً الاجتهاد في الدراسة والحصول على درجة الامتياز وتوعده بقطعة شوكولاتة كمكافأة على التفوق ، لكن جهاز play station 5 سيوفي بالغرض 😜.
فهم الدوافع يساعدك على فهم سلوك الإنسان ويشرح لك آلية تغييره ، وسواء كنت أباً وتريد تربية أبنائك ، أو كنت صاحب تجارة وتهدف سلوك الزبائن لمزيد من الربح ، أو غير ذلك ، كل ما عليك فعله هو فهم "الوقود والاحتكاك – الدافع والمتطلبات" وستصل بالسلوك للوجهة المطلوبة .
سيدي القارئ أرجو أن تجول بذاكرتك الآن ، وتتذكر كل سلوك تتمنى تغييره ، وتتأمل ملياً في دافعه وتفكر في كيفية تغييره ، لأني لا أتمنى أن تكون كلماتي كحملات التوعية الأمريكية التي لا فائدة منها 😜 .

كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.

كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.

ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.