أبوابـنا المفتوحة

في عام 1977م قاد الكابتن جاكوب فان زانتين رحلة للخطوط الهولندية KLM، من مطار أمستردام إلى مطار لاس بالماس في إسبانيا.

إلا أنه أثناء الرحلة فَـجَّـرَ إرهابيون قنبلة في مطار الوصول، فاضطر جاكوب إلى النزول في مطار تينيريفي القريب منه، تمهيداً للعودة بالطائرة والركاب إلى أمستردام.

السيد جاكوب كان المشرف على تدريب طيارين شركة KLM، ورئيس برنامج الأمن والسلامة، وقد اختير ليكون الوجه الإعلاني للشركة في إعلانها التفاخري بالتزامهم في أوقات الطيران والذي يقول "الأشخاص الذين يجعلون الالتزام بالمواعيد ممكناً"، وكان أحد أهم أعمدة الشركة.

كان يريد العودة فوراً بالطائرة بعد نزوله وتزوده بالوقود، وقد أبلغ الشركة والمسافرين أنه سيعود خلال 6 ساعات بأقصى حد، إلا أن السلطات الإسبانية كانت تجبر الطيارين على فترات راحة بين الرحلة والأخرى، فاضطر إلى الانتظار لبضع ساعات، خلفت عليه ضغطاً نفسياً كبيراً... كيف لا وهو سيد الالتزام بالمواعيد؟!!

أخيراً منحت السلطات الإذن لجاكوب للعودة إلى أمستردام، فتوقف بطائرته على المدرج انتظاراً للإذن بالإقلاع، وفي المدرج بعض الطائرات الأخرى التي تريد الإقلاع أيضاً، وكان الضباب كثيفاً حينها مما يعني المزيد من التأخير وبالتالي المزيد من الضغط على جاكوب وخوفه من خسارة سمعته أو سمعة الشركة كأفضل الشركات التزاماً بالوقت.

جاكوب كان منفعلاً في قمرة القيادة وحاد الألفاظ مع زميلة وبرج المراقبة، ولم يكن يسمع بوضوح ما يقوله البرج نظراً لانفعاله وانشغاله بتوزيع الشتائم، وبالتالي انطلق بطائرته دون إذن بالإقلاع ظناً منه أن الطائرة التي سبقته قد غادرت المدرج.

وبعد أن شغل محركاته وانطلق بأعلى سرعة تفاجأ بوجود طائرة أخرى على المدرج، فحاول تفادي الاصطدام بها، ولكن لا جدوى....

لقد حدثت الكارثة بالفعل وتوفى جاكوب وجميع ركاب الطائرة، وتوفى عدد كبير من ركاب الطائرة الأخرى أيضاً، وكانت الحصيلة النهائية وفاة 583 فرد، ونجاة 61 آخرين، في كارثة تعد الأكثر دموية في تاريخ الطيران عموماً.

ماذا الذي قاد جاكوب لمثل هذا الفعل المتهور؟ أ ليس هدفه الأساسي العودة بالركاب والطائرة إلى أمستردام.. فما الذي زحزحه عن هدفه؟

قبل أن أحدثك عن طبعنا البشري... إليك هذه التجربة التي أجراها عالم الاقتصاد السلوكي الرائع دان آريلي على مجموعة من الطلبة في جامعة ماساتشوستس.

في التجربة يجلس الطالب أمام شاشة الكمبيوتر للقيام بلعبة تُـكسبه شيئاً من المال، إذ يكون أمامه ثلاثة أبواب (أحمر – أزرق – أخضر)، ويكون لديه في رصيده (100) نقرة بالفأرة، وعليه أن يفتح أحد الأبواب بنقرِهِ -لن تُـكسبه هذه النقرة شيئاً من المال- ثم يقوم بالضغط داخل الباب، وكل ضغطة ستربحه مبلغاً ما.

والأبواب تتراوح فيما بينها فالأخضر سيكسبه من 4 إلى 12 سنت بكل نقرة، والأحمر من 3 إلى 6 سنتات، والأزرق من 2إلى 5 سنتات بشكل عشوائي، وعلى الطالب التعرف على الباب الأكثر ربحاً ليكمل النقر فيه، أو يضغط بشكل اعتباطي -ولو في باب واحد- ليربح ما يربح، ولكن تبقى نقرة فتح الباب تنقص رصيد نقراته دون أن تُربحه أي مبلغ.

وهذا يعني أن الانتقال من باب إلى آخر في بادئ الأمر ستكون استراتيجية جيدة للبحث عن العائد الأكبر، إلا أن التخبط من باب إلى آخر بتهور يعني أنك استهلكت نقرات كان بإمكانها أن تربحك مالاً بدل ذلك.

كانت التجربة سهلة في هذه الحالة، وأجرتها مجموعة من الطلبة كسبوا بعضاً من المال... وسرعان ما تعرفوا على الباب الأخضر واستثمروا نقراتهم فيه.

ولكن الجزء المثير من التجربة لم يأتي بعد....

أتى السيد دان بمجموعة أخرى من الطلبة، وقدم لهم ذات اللعبة، إلا أن أي باب لا تفتحه خلال 12 نقرة ستخسره ويختفي إلى الأبد، وكانت الأبواب تتصاغر شيئاً فشيئاً إن لم يقم الطالب بفتحها، حتى تختفي تماماً بعد النقرة الـ 12.

في هذه الحالة كان غالبية الطلبة يفتحون أحد الأبواب ليستثمروا فيه نقراتهم، ولكن ما إن تتصاغر الأبواب الأخرى يسارعون بالضغط عليها كي لا يخسروها، وهذا يُصعِّب عليهم معرفة الباب الأكثر ربحاً، وبالتالي سيخسرون بعض النقرات للمحافظة على أبواب قد تكون الأقل في المكسب.

غالبية الطلبة في هذه الحالة تنقلوا من باب إلى آخر دون أن يُدركوا أن الباب الأخضر هو الأكثر ربحاً، وكانوا ينفعلون قليلاً في نقراتهم، وأجسامهم تميل بقوة إلى شاشة الكمبيوتر.

وأخيراً كانت الحصيلة أن الطلبة في هذه الحالة جنوا أموالاً أقل بشكل جوهري من المشاركين بالكيفية الأولى.

وإحصائياً لو فتح هؤلاء الطلبة أي باب واستثمروا كل نقراتهم فيه لربحوا أكثر مما ربحوا وهم يحافظون على بقاء الأبواب متاحة.

أتى السيد دان بمجموعة أخرى من الطلبة وأعاد عليهم اللعبة بالكيفية الثانية، ولكن أضاف إليها أن أي باب تريد فتحه عندما يبدأ بالتصاغر لن يُكلفك نقرة فحسب، بل سيُكلفك خصم 3 سنتات أيضاً.

فهل منع ذلك الطلبة من التنقل بشكل انفعالي بين الأبواب للمحافظة على بقائها؟

لا... لا زالت تلك الإثارة الغير منطقية تنتابهم بشأن إبقاء كل الخيارات متاحة.

وأتى السيد دان بمجموعة أخرى من الطلبة وأعاد عليهم التجربة بالكيفية الثانية، وأخبرهم أن الباب الأخضر سيكسبهم من 4 إلى 12 سنتات بكل نقرة، والأحمر من 3 إلى 6 سنت، والأزرق من 2إلى 5 سنت بشكل عشوائي.

وهنا المنطق يقول بوضوح افتح الباب الأخضر واستثمر فيه كل نقراتك ولتغب بقية الأبواب إلى الجحيم.

فهل تحمل غالبية الطلبة في هذه الحالة اختفاء الأبواب بعد النقرة الـ 12؟

سبرااااااااايز...... الجواب لا.

فكرة المحافظة على بقاء الأبواب وعدم خسارتها فكرة لا منطقية سيطرت على كل الطلبة... وشتتهم عن هدفهم الأساسي وهو حصد أكبر قدر من المال من خلال نقراتهم المحدودة.

وأتى السيد دان بمجموعة أخرى من الطلبة وأعاد عليهم اللعبة بطريقة تشبه الكيفية الثانية، ولكن الباب لن يتصاغر ويختفي إلى الأبد بعد النقرة الـ 12، فالباب سيبقى في ذات الحجم ولكن ستتباهت ألوانه، حتى يصبح شفافاً، ولكن لن يختفي إلى الأبد، بل تستطيع العودة إليه متى تشاء وفتحه بنقرة واحد، وسيعود إلى لونه الطبيعي.

وأيضاً لم يتحمل الطلبة هذا التباهت وأضاعوا نقراتهم بشكل اعتباطي ليحافظوا على بقاء الأبواب دون وصولها للونها الشفاف، رغم أن ذلك لا يعني اختفاءها للأبد وخسارتهم إياها... فقط يعني أنه غير ضروري لك فأنت منغمس في غيره.

الخوف من الخسارة سيطر على الطلبة بشكل لا منطقي، وكبدهم خسائر كان من الممكن تفاديها... وهذا هو طبعنا البشري.

نحن نحاول بلا عقلانية أن نبقي جميع الخيارات متاحة قدر المستطاع، ولو بتكلفة باهظة، عاجزين عن إلزام أنفسنا بغلق الأبواب المفتوحة وإبقاء خيار واحد مثمر وناجح... لأننا نخاف خسارتها.

كثير من تصرفاتنا في حياتنا اليومية قائمة على الخوف من الخسارة وليس الربح، فعلى نحو مشابه قد نشتري منتجاً في التنزيلات، ليس لأننا بحاجة حقيقية له، ولكن لأنه في نهاية التنزيلات سيختفي هذا السعر المميز ولن نحصل عليه بعد ذلك.

وكما يقول الفيلسوف والاقتصادي الأمريكي كينيث إي بولدينج: " قد تكون معرفة الخسائر المحتملة مؤثرة في السلوك أكثر من الأرباح المتوقعة، لذا فإن تعظيم الربح ليس هو القوة الدافعة حقاً، إن الخوف من الخسارة هو ما يحد سلوكنا".

والأمر لا ينطبق على قراراتنا المالية فقط، بل الاجتماعية والعاطفية أيضاً...

قد ننخرط أحياناً في علاقات تبدأ بشكل رائع، ويتخللها الكثير من الود أو الانجذاب، ولكن سرعان ما يتبدل الأمر لتصبح العلاقة سامة، لا لأننا لم نحسن الاختيار في بادئ الأمر، بل لأن الأيام تُغير الناس، وقد تُغيرهم للأسوأ، وهنا المنطق يقول اغلق الباب في وجه تلك العلاقة واستمتع بحياتك مع الأبواب الأخرى الأكثر لطفاً، ولكن طبعنا البشري اللامنطقي في المحافظة على جميع الأبواب سيبقيهم في حياتنا... ونتكبد مرارة وصلهم.

مشاعرنا.. ذكرياتنا... أفكارنا... كثير منها يبقى متعلقاً في تلك الأبواب التي كان يجب علينا إغلاقها...

وفي الحقيقة ما ألهمني لأكتب هذا المقال هو أنني التقيت قبل برهة بزميلتي دكتورة علم النفس الرائعة Amanda C. Marshall من جامعة ماكسمليان في ميونخ، وحكت لي حالة مرضية أنقلها لك...

"جوليا" فتاة جميلة تعرفت على شابين يتمنيان الزواج بها، وكفتاة عاقلة كان عليها أن تكرس عاطفتها لشخص واحد منهما فقط.

كانت علاقتها بالشاب الذي تعرفت عليه أولاً تنهار تدريجياً، ويشوبها بعض الغضب والمشاجرات، بينما الشاب الآخر كان أكثر هدوء وعقلانية وحباً، وكانت تظنه الأفضل ليكون زوج المستقبل، إلا أنها في ذات الوقت كانت عاجزة عن غلق باب الشاب الأول... كانت تتواصل معه خوفاً من خسارته، رغم وجود شاب آخر هو الأنجح لتكوين الأسرة... مساءلةً نفسها هل في فترة متقدمة من الحياة ستكتشف أنها ربما أحبت الأول أكثر من الآخر؟

وبالتالي... عاشت جوليا ضغطاً نفسياً، لم تستطع أن تعطي الشاب الآخر ما يستحقه من حب، ولم تكن على استعداد لخسارة الأول، ثم بدأ عقلها -المتجمد بين خوف الخسارة والتمتع بعلاقة ناجحة- بالانهيار، وبكل غضب خسرت الإثنين معاً، مما زاد الطين بلة، وأدخلها باكتئاب أفسد جودة حياتها. (بالمناسبة... السيد دان أريلي أيضاً يستشهد في بحثه بحالة مشابهة لجوليا لكنها لم تنهار، بل اتخذت القرار الأفضل متأخراً وتمسكت بالأصلح)

وعلى صعيد الحياة... أحياناً نحاول إنجاز الكثير من المشاريع، نفتح لأنفسنا العديد من الأبواب، لكن طاقتنا الإنسانية المحدودة لا تسعفنا لأدائها كلها، لكننا نخاف الخسارة ونريد المحافظة على كل المشاريع معاً، لتكون الحصيلة في النهاية عدم إنجاز أي منها.. أو القيام ببعضها بأسوأ وجه.

لا تظن أنك سيدي القارئ تستطيع أن تفتح كل الأبواب وتبدع فيها... لن تستطيع أن تنجز في عملك، وتذهب إلى الصالة الرياضية، وتزور الأصدقاء، وتحسن إلى عائلتك، وتقرأ الكتب، وتشاهد الأفلام، وتساعد مجتمعك، وتتقرب إلى الله بالعبادة و..و..و.. في ذات الوقت، كلها أبواب رائعة لكنك لا تستطيع أن تفتحها كلها وتحافظ عليها... أغلق الأبواب أمام التزاماتك واخسر بعضها لتنجح في البقية.

وفي بعض الأحوال اغلق كل الأبواب وافتح واحداً واستثمر فيه.. بالأخص لو كان لهذا الباب علاقة بقلبك ومشاعرك.. امنحه فرداً فقط.

السيد جاكوب الطيار البارع كان يمتلك سمعة رائعة، ومكانة مرموقة في الشركة، وكان يخشى خسارتها، وفي رحلته الأخيرة أراد أن يحافظ على الركاب، وأن يلتزم بالتوقيت الذي حدده والذي سيضمن استمرار سمعته البهية، ولكن كِلا البابين لم يكونا ليفتتحا معاً، وبالتالي عاش ضغطاً نفسياً قاده للتصرف بتهور، وتسبب بأكبر حادث في تاريخ الطيران إلى يومنا هذا.

تذكر دائماً أننا نخشى الخسارة، فنبقي الأبواب كلها مفتوحة، لكن النجاة في دحض هذا الطبع البشري المدمر، واغلاق الأبواب وتحمل شعور الخسارة... لذا تفكر الآن في كل الأبواب التي في حياتك... وما التي يتوجب عليك اغلاقها.

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٣ أبريل ٢٠٢٥
كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بقية المقالات