قبل أن تصعق نفسك ... أرجوك اشعر بالملل

سيدي القارئ لو خيرت بين الشعور بالألم والشعور بالملل .. أيهما ستختار ؟
في عام 1975م تخرج السيد "مهران ناصري" من جامعة برادفورد البريطانية وقرر العودة إلى وطنه إيران ، وما إن وصل إلى المطار استقبلته القوات الخاصة الإيرانية واقتادته إلى السجن ، ومارست عليه أنواع التعذيب ، لاشتراكه في مظاهرات مناهضة لشاه إيران في بريطانيا .
وبعد أشهر من السجن خرج مهران وطلب اللجوء من عدة دول أوربية ، ولم تقبله سوى بلجيكا ، والتي بقي فيها عدة سنوات .
بعد ذلك قرر العودة إلى بريطانيا عن طريق مطار شارلي ديغول الفرنسي ، لكن حظه العاثر سَلَّطَ عليه لصاً سرق أوراقه الثبوتية أثناء رحلته ، فلما وصل إلى مطار هيثرو في لندن ، رفضته السلطات البريطانية وقررت إرجاعه إلى مطار شارلي ديغول الفرنسي لعدم حمله أي أوراق رسمية .
السلطات الفرنسية أبقته في صالة الترانزيت في المطار كي تنظر في موضوعه ، وقد طال مكوثه هناك ... لقد بقي في المطار 18 عام كاملة !!! .
تأقلم السيد مهران على حياة صالة الترانزيت ، كان يقوم يومياً من النوم في الساعة الخامسة فجراً ليستحم في دورات المياه ، ويمارس نشاطه اليومي كالاستماع إلى الراديو وقراءة الكتب وكتابة مذكراته والقيام ببعض الأعمال اليدوية التي تُكسبه المال لشراء الطعام أو الملابس .
وفي المطار التقى السيد مهران بالكاتب البريطاني أندرو دونكين ، والذي ساعده على تحويل مذكراته إلى كتاب نُشر في العديد من دول العالم وتُرجم إلى لغات مختلفة ، وقد صُنعت منه عدة أفلام سنيمائية كالفيلم الفرنسي "ضائع في الترانزيت" وفيلم "ذا تريمينال" للقدير توم هانكس .
الكتب والأفلام أربحت السيد مهران الكثير من الأموال ، والتي جعلته يتكاسل عن الأنشطة التي كان يقوم بها لكسب المال ، وذلك ما جعل الملل يتسلل إلى دماغه ، فانتكست صحته العقلية !! ، وبدأ يُسمي نفسه "السير ألفريد" ، ولا يلتفت إلى كل من يناديه مهران ، بل ونسي لغته وهويته الإيرانية .
وفي عام 1999م منحته السلطات الفرنسية حق اللجوء إليها ، إلا أنه رفض ذلك وبقي في المطار ، لأن السلطات كتبت في أوراق اللجوء أنه إيراني ، بينما مهران كان يرى نفسه بريطانياً !! .
توالت الأيام المملة على مهران مخلفة فيه الكثير من الاضطرابات النفسية ، وفي عام 2007 وبعد أن انهارت صحته وجن جنونه وافقت فرنسا على إدخاله إلى مركز رعاية للاجئين في باريس ، ولا يزال فيه وعمره اليوم 75 عاماً .
السنوات العشر الأولى التي استثمر فيها مهران عقله لكسب المال والكتابة حافظت على قواه العقلية ، بينما المال الذي شجعه على الكسل قاده إلى حافة الجنون إذ سَلَّمه إلى الملل ليفتك به .
ولا تظن سيدي القارئ إنني أبالغ حين أقول لك أن الملل فتك بقواها العقلية ... إنه أسوأ مما تتصور ، إليك هذه الدراسة .
قام دكتور علم النفس والأعصاب السيد دونالد هيب Donald Hebb بتجربة مثيرة على مجموعة من الأشخاص الأصحاء نفسياً وعقلياً ، إذ يوضع المتطوع للتجربة في غرف محدودة المسافة منعزلة عن الناس والأصوات ، وبإضاءة معدمة ، وبيده قفازات كي لا يشعر بملمس أي شيء حوله .... أي ملل تام لا يمكن لعقله أن يتمتع بأي من حواسه .
بعد سويعات قليلة من سيطرة الشعور بالملل ظهرت على المتطوعين أعراض القلق والتوتر ، ثم انتابتهم بعد ذلك بعض الهلاوس ، فأحدهم ادعى رؤية غابات مليئة بالحيوانات ، وآخر رأى بشراً لونهم أصفر ، ومن رأى مظاهرات تقوم بها نظارات شمسية ، ومنهم من سمع أصوات طيارات حربية تحلق فوق رأسه ، ومنهم من شعر بآلام في يديه كأنه تعرض لإطلاق نار ، وأحدهم قال : رأيت دماغي كأنه كرة من القطن يخرج من رأسي ويطير في أرجاء الغرفة .
بعد خروجهم من تلك العزلة المملة طُلب منهم حل بعض المسائل الحسابية وتشكيل بعض الأشكال في المكعبات ، إلا أنه كان هناك تدهور شديد في قدرتهم العقلية وعجزوا عن ذلك .
وقد سألهم السيد دونالد عن رأيهم حول الأشباح والأرواح الشريرة ، فكان بعض المتطوعين يجيبون بأنهم يشعرون بها ويخافون من ظهورها ويعتقدون بوجودها ، رغم أن كثيراً منهم - كما يقول أقاربهم - لم يكن يؤمنون بها قبل التجربة . ( وايي لك واحد الملل لاعب بمخه ويقول لك التطعيم مؤامرة .. عطوني عقاااال 😒)
فهل اقتنعت أن الملل يبطش بالدماغ ... حرفياً ؟
لنعد إلى سؤال مقدمة المقال ، لو خيرت بين الشعور بالألم والشعور بالملل .. أيهما ستختار ؟
في دراسة حديثة كان المشارك في التجربة يوضع في غرفة لمدة تتراوح بين 6 إلى 15 دقيقة فقط ، وليس في الغرفة إلا زر يصعق بالكهرباء من يضغطه .
وطلب الباحثون من المشاركين يسلوا أنفسهم بأفكارهم خلال هذه المدة ، أو بإمكانهم صعق أنفسهم أن أرادوا !! .
ولك أن تتخيل أن 76% من الرجال و25% من النساء المشاركين في التجربة صعقوا أنفسهم عوض الشعور بالملل !!!.
رغم أن جميعهم أخبروا الباحثين قبل التجربة أنهم على استعداد لدفع المال مقابل تجنب الصعق بالكهرباء .
فضلوا الشعور بالألم على الشعور بالملل ... أ رأيت إلى أي مدى تكره أدمغتنا هذا الشعور ؟!
والملل ليس فقط عدم المشارك بأي نشاط كما هو الحال في التجربتين السابقتين ، بل هو عدم انجذابك وتمتعك بما تقوم به ... مجرد انخراطك في أمر لا تستلطفه سيصيبك بالملل .
ولعلك سيدي القارئ بعد أن عرفت فظاعة الملل تظنني سأدعوك لتجنبه حباً لك وحرصاً عليك ... كَلا ، أرجوك اشعر بالملل . ( بس ترى أحبك والله 🥰 اشفيك استحيت 😜)
عندما يتسلل الملل إلى دماغك يُفقدك التركيز ، ويجعلك تجول بأفكارك يميناً وشمالاً بحثاً عما يمتعك ، كالتقلب بين البرامج الاجتماعية وما أشبه ، ولا شك أن ذلك سينقذك من الشعور بالملل ، لكنك ستخسر الكثير في حينها ... وهنا مربط الفرس .
في تجربة قاموا بإعطاء المشاركين مجموعة من المهام المملة المختلفة ، كقراءة دليل الهاتف مثلاً ، ثم طلبوا منهم بعد انجاز المهمة أن يكونوا مبدعين ويبتكروا أكبر قدر من الأفكار لما يكمن عمله بكوب من البلاستيك .
وكانت النتيجة أن الأشخاص الذين قاموا بالمهام الأكثر مللاً كانوا أكثر ابداعاً من أولئك الذين لم يعانوا الكثير من الملل .
أي أن الملل حفز قدرة أدمغتهم على التفكير والابداع ... نعم كثير من الملل يُردي الدماغ ، لكن بعض الملل يحفز الدماغ على الإبداع .
الشعور بالملل رسالة دماغية مفادها أنك لا تتشارك مع العالم المحيط بك بالشكل المناسب ، ويخبرك بأنه قادر على الإبداع والتفكير ... فقط قم باستثماره .
في دراسات أخرى أظهرت النتائج أن الملل يجعلك أكثر إيثاراً وإنسانية ، فالإنسان عندما يغزوه الملل يشعر بأنه خائب ومشتت ، وقد يجعلك ذلك تتساءل ما الذي تفعله بحياتك وإلى أي طريق تسير وما الهدف من وجودك ؟ .
في دراسة للباحثة دكتورة الصحة النفسية السيدة Iris Anda Ilies قادت فيها مجموعة من المشاركين إلى الشعور بالملل ، ثم حدثتهم عن التبرع للجمعيات الخيرية والتبرع بالدم ، فكان المشاركون الأكثر تمللاً هم الأكثر إيثاراً وتبرعاً .
وفي استطلاع للرأي في أمريكاً ، أكثر من 81% من المتبرعين بالدم ، كانوا يقولون أنهم تبرعوا بالدم لأن لديهم وقت فراغ!! ، وهذه نسبة كبيرة جداً تدعوك لإعادة تصورك عن الشعور بالملل . ( ولأكن معك صادقاً خطرت ببالي فكرة المقال وأنا متملل أثناء تبرعي بالدم )
أي فرصة القيام بأعمال قيمة - ولو كانت غير ممتعة - أثناء شعور بالملل أكبر مما لو لم تكن كذلك ... الملل يقودنا للتفكير بحياتنا فيعطيها هدفاً ومعنى .
في دراسة لدكتور علم النفس بنيامين بايرد benjamin baird أكد أن الأشخاص الذين يشعرون بالملل عند قيامهم ببعض المهام البسيطة ، ويشردون بأذهانهم أثناء ذلك ، كثيراً ما يفكرون في المستقبل وينغمسون في التخطيط الذاتي عند تمللهم من تلك الأنشطة .
أي عند شعورك بالملل قد يحاول عقلك أن يهرول إلى هاتفه - مثلاً - للبحث عن ما يسيله ... ونعم أنت بذلك تخفف لحظة من الملل ، لكنك تحرم نفسك من المزيد من الأفكار المبدعة والروح الإنسانية ، وتُضيِّـع عليها إعادة تقييمها لمستقبلها وخططها ، لأن الأدمغة المستهلكة دائماً بالمحفزات والتسلية من النادر أن تفكر في ذلك .
وحينها ستكون كالذي يصعق نفسه باستمرار ليتجنب الشعور بالألم ، فيضر نفسه كي يتلافى ذلك الشعور .
عند شعورك بالملل لا تبحث عن جرعة من التسلية ، امنح نفسك دقائقاً من التفكير والتأمل ، تلك الدقائق ستغير الكثير من أفكارك وأهدافك ... وستضفي على تصرفاتك المزيد من الإنسانية .
ولكن إياك أن تُسلم دماغك إلى الملل الكلي دون تفكيرٍ وتأمل ، فإن دماغك إن لم يشغل نفسه بما ينفعه أو يسليه ، سيُلهي نفسه بنفسه بما يهوي به إلى حافة الجنون أو الأفكار السخيفة .. تماماً كما هو حال مهران ناصري .

كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.

كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.

ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.