معضلة اتخاذ القرار
عقلك أم قلبك

نحن في ورطة حقيقية... قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟

قد لا أُقدم لك حلاً في هذا المقال، لكنني لن أسرق وقتك دون جدوى... سأشرح لك كيف تُدار الأمور في دماغك، وأنت من عليه أن يخترع الحل.

هل سمعت بإمبراطورية "خوارزم" من قبل؟ غالباً لا.... والسبب لأنها مُحيت من الوجود.

كانت من أهم إمبراطوريات العصور الوسطى أروعها بنياناً وأكثرها ثراءً وتقدماً في العلوم، ومركزاً للثقافة الإسلامية، تمتد من الهند جنوباً إلى أطراف روسيا والبحر الأسود، وإلى الخليج العربي غرباً، ضامة كل دول آسيا الوسطى.

في عام 1217م تلقى إمبراطور خوارزم الشاه علاء الدين رسالة من جاره حاكم إمبراطورية المغول جنكيز خان مكتوب فيها "أنا سيد أرض مشرق الشمس، بينما تحكم أنت تلك الأراضي التي تغرب فيها الشمس، دعنا نبرم معاهدة من الصداقة والسلام".

كان جنكيز خان قد وَحَّـد شمال الصين وكل الدويلات المحيطة بإمبراطوريته، مقاتل شرس لا يُستهان بقوته، خاض حروباً دموية لبناء إمبراطوريته، وقد كان عند كتابة هذه الرسالة قد بلغ الستين من العمر، وكبر على القتال ويريد قضاء آخر سنوات حياته في الراحة والاستجمام بعد ذلك العمر الطويل على صهوات الجياد، محاولاً تنمية تجارة إمبراطوريته وكسب مودة جيرانه.

بعث جنكيز عدة مراسيل إلى علاء الدين، محملة بالهدايا، وقد أرسل ذات مرة كتلة ذهبية ضخمة جداً، ومعها رسالة مكتوب فيها: "لدي رغبة كبيرة في العيش في سلام معك، يجب أن أراك وجهاً لوجه يا بني".

لم يستلطف علاء الدين رسائل جاره، وشعر وكأنه يستصغره بنعته بني وحاكم أرض المغرب، لذا كان علاء الدين كارهاً لشخص جنكيز غير آبه بالقيام بالتجارة معه رغم ما ستحققه من الانتعاش الاقتصادي والثروة لكِلا الطرفين، وهذا ما كان يفكر به جنكيز بكل منطقية.

أرسل جنكيز مبعوثـه الشخصي، إلى خوارزم مع قافلة ضخمة جداً تضم 450 تاجراً مسلماً من اليغور و500 جمل يجرون عربات محملة بأروع البضائع والمعادن الثمينة.

وصلت القافلة إلى إحدى مدن خوارزم، فاستبشر تجارها الذين سيتمكنون أخيراً من اقتحام السوق الصيني وتبادل التجارة مع المغول، إلا أن حاكم تلك المدينة أمر جيوشه بقتل كل من في القافلة، وسرق كل ما فيها، متحججاً أنه اشتبه بهم أنهم جواسيس.

 صدم خبر مقتلهم العالم فكيف تقتل جيوش مسلمة تجاراً مسلمين لم يرتكبون ذنباً!!!

جنكيز رغم امتعاضه الشديد مما حصل قرر إعطاء علاء الدين فرصة ثانية، فأرسل ثلاثة مبعوثين، أحدهم مسلم واثنان من المغول، وطلبوا من علاء الدين أن يضع لدم المسلم حرمة وللتجارة احتراماً، فيُعاقب الجناة ويرجع السلع إلى أصحابها، ويدفع دية قتل المسلم للمسلم، كي يحل السلام.

هل اتخذ علاء الدين قراراً منطقياً لحقن الدماء وإنماء التجارة؟ كلا... غالبته مشاعر الغرور والخيلاء فقتل المبعوث المسلم، وحرق لحية المغوليين وأعادهما إلى جنكيز خان مذللين مشوهين.

فما كان من جنكيز إلا أن أرسل رسالة أخيرة إلى علاء الدين مكتوب فيها: "استعد للحرب أنا قادم".

ولعلك تعرف الآن بقية التاريخ....

لقد أعمى الحقد قلب جنكيز ومحى تلك الإمبراطورية من الوجود، فأباد أي مدينة تقف في وجهه ولا تريد الاستسلام، حارقاً بيوتها قاتلاً كل من يتنفس فيها حتى الكلاب والقطط، لكنه ترك المساجد دون أي يلمسها احتراماً لدماء اليغور الذين قُتلوا في بادئ الأمر، والذين قاتلوا في صفوف جيشه أيضاً.

مات جنكيز خان... لكن أكمل أبناؤه وأحفاده سلسلة القتل وتخريب البلدان وعاثوا في صفحات التاريخ فساداً وصبغوها بالدماء، إلى أن ضعفت إمبراطوريتهم وتلاشت.

لماذا كل هذا؟ لأن هناك أحمق يُدعى علاء الدين عوضاً أن يتبع عقله والمنطق السليم في معاهدة الصداقة والتجارة راح يتبع مشاعره وغروره، والذي خَلف في قلب جنكيز مشاعر مقيتة أخرى أعمته عن أي صوت للعقل وأصبح وحشاً لا يمكن احتواءه.

وأنت سيدي القارئ... هل تتبع قلبك أم عقلك في غالبية قراراتك؟

في الحقيقة -ومن ناحية علمية- القرارات العاطفية تُدار في الدماغ في الفص الجبهي لا القلب، بينما القرارات العقلانية في اللوزة الدماغية وبقية مناطق صنع القرار في الدماغ، ولا يوجد في الدماغ زِرَين (عاطفة – منطق) يمكن لنا ضغط أحدهما عندما نفكر في اتخاذ القرار... الدماغ لا يجري وفق هذه الطريقة.

غالبية البشر عندما يكونون في منطقة الهدوء وبعيداً عن الأزمات والهيجان العاطفي تكون قراراتهم مَـيّـالةً للمنطق تجري وفق المبادئ العليا والأخلاقيات، وما إن يتعرضون لاستثارة عاطفية حتى يتبدل الأمر غير الذي كان، وينجرفون نحو القرارات العاطفية إلا من رحم ربي وقاوم مشاعره واتبع المنطق.

في دراسة أجراها عالم الاقتصاد السلوكي الرائع دان آريلي Dan Ariely أحضر لمختبره مجموعة من الطلاب الأذكياء المميزين في الجامعة، فيوضع الطالب في غرفة لوحده ثم يتم سؤاله بعض الأسئلة -من خلال شاشة كمبيوتر- حول القرارات التي سيتخذها عندما تُعرض عليه إمكانية الدخول في علاقة عاطفية قد لا تحتوي على مقدار من الأمان، بل لربما تسبب له مشاكل اجتماعية أو حتى صحية كبعض الأمراض.

جميع الطلبة أجابوا بمنطق ورجحوا عدم خوضهم في تلك العلاقات إلى حد ما.

بعد أسبوع يُؤتى بذات الطلبة إلى المختبر مرة أخرى، ويُسأل بذات الكيفية أسئلة تشبه إلى حد كبير أسئلة المرة الأولى، ولكن هذه المرة قبل الأسئلة يتم إثارته عاطفياً وتهييج شعور الشهوة لديه من خلال بعض المحتويات التي تُعرض له في الغرفة.

في خضم النشوة تغيرت أجوبة الطلبة بشكل مدهش، أصبح لديهم رغبة في الانخراط في مجموعة من الأنشطة المنحرفة وخوض تلك العلاقات، وتبدلت أجوبتهم بمقدار 72% نحو الأسوأ.

لم يعودوا أولئك المنطقيون... لقد طاشت أدمغتهم بفعل تلك المشاعر المتهيجة، وهذا هو حال غالبية البشر، وسواء كانت المشاعر نبيلة أو مبتذلة حتماً ستُـغير من قراراتنا بشكل لا يُصدق، فحين نظن أننا سنختار العقل والمنطق دوماً ستأتي لحظات ونضعف أمام عاطفتنا فنختار ما تُمليه علينا، أول لعل عاطفتنا تُؤثر على قراراتنا المنطقية دون أن نشعر.

وإليك هذه الدراسة التي قمت بها في الكويت عند مساعدتي لأحد طلبة علم النفس في كتابة رسالته للماجستير.

في أحد المجمعات التجارية استوقفنا 50 شخصاً توالياً للمشاركة في الدراسة، في بادئ الأمور نقوم بسؤالهم خمس أسئلة حول المنتج الوطني، ويمكنهم الجواب من 1 إلى 10، هل هم راضون عن جودة تلك المنتجات وسعرها، وهل سيقررون يومياً الاكتفاء بالمنتج الوطني، وهم على استعداد لشرائها عوضاً عن المنتج الأجنبي لو فُرضت عليها المزيد من الضرائب وبالتالي يرتفع سعرها، بعد إجابتهم على تلك الأسئلة، نخوض معهم بعض الأحاديث الجانبية -أقل من خمسة دقائق- حول الغزو العراقي الغاشم وكيف قاومهم بعض أبناء هذا الوطن بكل شجاعة وقدموا الشهداء، وكيف أننا ككويتيون نعشق تراب هذا الوطن الذي يجمعنا.... وكنا نحاول بذلك إثارة روح الوطنية والأخوة فيهم.

بعد ذلك نسألهم خمس أسئلة أخرى شبيهة إلى حد كبير بالأسئلة الأولى مع تغيير بعض مفرداتها وصيغة السؤال، وأظنك رجحت أن جوبتهم قد تغيرت فعلاً.... وأنت محق.

قبل الحديث الجانبي كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 4.5، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 3.8، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 3.5.

أما بعد الحوار الجانبي.... إليك هذه الصدمة، كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 7.6، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 8.2، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 6.1.

كل هذا التغيير في ظرف خمس دقائق من الوطنية!!!!!

حسناً.... إليك الصراحة، أنا شرير بعض الشيء، ولم أتوقف بالتجربة عند هذا الحد، لقد عدتها مرة أخرى مع 50 شخص آخرين، وسألتهم ذات الأسئلة ولكن هذه المرة كان حديثي الجانبي يدور حول خبث بعض التجار في الكويت وجشعهم والمبالغة بالأسعار، وكيف أفسد التجار السياسة ومجلس الأمة وكيف يختلسون الأموال ويستخدمون "الواسطة" للظفر بالمناقصات دون وجه حق... وكنت بذلك أريد إثارة الضغينة والشحناء وبعض العداوة.

في الأسئلة الخمسة الأولى كانت متوسط الإجابة شبيه جداً بالمرة الأولى (4.5/ 3.9/ 3.4)، ولكن بعد هذا الحديث الجانبي وإعادة الأسئلة لك أن تتخيل الأجوبة..... كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 2.1، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 0.9، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 0.2.

مضحك كيف تتلاعب بالإنسان مشاعره وكيف بحديث عاطفي جانبي ممكن أن تُـغير من قراراته وقناعاته دون وعي منه بذلك.

وللأسف لم يفكر أحد من هؤلاء المئة شخص بعجلة الاقتصاد والتنمية وكيف أن تشجيع المنتج الوطني سينصب لاحقاً في مصلحة المشتري... وهذا ما يقوله علم الاقتصاد.

ولنفرض الآن سيدي القارئ أنك قررت أن تكون كل قراراتك القادمة مبنية على العلم والمنطق وبعيدة كل البعد عن العواطف الجياشة والمشاعر المتأججة، هل حقاً ستلتزم بها؟

على الأرجح الجواب هو "لا" فأدمغتنا ليست بهذا المقدار من الانضباط.

غالباً نحن البشر -وللأسف- عندما نقوم باتخاذ قرارات عاطفية نتمسك بها بشدة ونسعى جاهدين للحفاظ عليها والقيام بها وندافع عنها بشراسة، بينما لو اتخذنا قرارات عقلانية منطقية فإننا سنكون أقل التزاماً بها، ولا ندافع عنها بذات الشراسة التي تكون مع القرارات العاطفية، وقد لا نكملها على أحسن وجه، هذا إن أكملناها أصلاً.

أقاما الدكتورين سام ماجليو – تالي رايش Sam Maglio – Taly Reich مجموعة من الدراسات والتجارب لملاحظة الناس بعد اتخاذهم للقرار، وفي إحدى التجارب طلبا من بعض المشاركين اختيار واحدة من ثلاث كاميرات رقمية بناءً على التحليل العقلاني لمجموعة من الخصائص التقنية والمميزات، وطُلب من البعض الآخر استخدام عواطفهم وشعورهم البديهي للاختيار دون إرهاق أدمغتهم بالتفكير.

في اليوم التالي يقوما القائمَـين على التجربة بنقد اختيارات المشاركين واقناعهم بأنهم اتخذوا الاختيار الأسوأ، وكانت النتيجة أن من اتخذوا قرارات عاطفية شعروا بندم أقل ودافعوا عن اختيارهم بصلابة، على عكس العقلانيين شعروا بندم أكبر دون دفاع مستميت عن اختيارهم.

في تجربة أخرى لهما طَـلبا من المشاركين حل الألغاز وفق العاطفة أو المنطق أيضاً، وكان الأشخاص الذين يحلوها وفق مشاعرهم ويخطؤون يحاولون مرة أخرى -أو أكثر- البحثَ عن الحل الصحيح، بينما من يحلوها وفق المنطق ثم يفشلون غالباً ما يتوقفون عند ذلك الحد.

أي أن القرارات العاطفية هي التي نتحمس بشدة للقيام بها والدفاع عنها، على النقيض تماماً عندما يتعلق الأمر بالقرارات المنطقية.

وهذه معضلة حقيقية... فإما قرارات عاطفية غير مستقرة ولا رزينة تتبدل مع تغير مشاعرنا، والتي -كما ترى- أنها قد تتقلب يومياً، نلتزم بها كلياً وندافع عنها، أو قرارات حكيمة وعقلية، ولكن لن نكون مخلصين جداً لها ولا مصرين عليها إلا بمقدار كبير من الانضباط النفسي وجهاد المشاعر، وهذا ليس بالأمر السهل.

إن محاولة ضبط النفس والالتزام كلياً بالمنطق في قبال المشاعر يحتاج منا طاقة نفسية كبيرة وحكمة وأخلاقاً ومقداراً من الوعي، وهذا لا شك سيعود نفعه على حياتك بشكل رائع، ولكنه كفاحٌ ثقيلٌ على النفس في جُل الأوقات، في حين لا أسهل من الانجراف خلف تيار المشاعر والاستسلام كلياً للعواطف التي تقلب بنا حيث ما تشاء، ومن المرجح ألا تكون فعالة جداً لجودة حياة الإنسان بل العكس.

وكثيراً ما يحلو لأدمغتنا خداعنا بأننا اليوم -ونظراً للظروف- سنتخذ قرارات عاطفية فلا طاقة نفسية تعيننا على الصراع مع الذات، على أن نتخذ القرارات المنطقية لاحقاً عندما تهدأ وتطيب الأيام، لكن الحياة -وكما ترى- للأسف لا توفر الكثير من الرفاهية والراحة ولن تجلب لنا هذه الأيام، فأي ظرف تتجاوزه سيأتي بعده آخر وهكذا دواليك.... إنها صعبة جداً وتستنزف منا الكثير من الصبر والطاقة النفسية، وستبقى كذلك على الدوام.

لنعد إلى سؤالنا الأول.... "هل قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟"

أظنك فهمت كيف تدار الأمور في دماغك، وعرفت كيف أن مشاعر تعبث بقراراتنا سواء شعرنا بذلك أم لا، فتفضل في اتخاذ الحل الأنسب لك.... وتيقن كلما زادت إرادتك في محاربة مشاعرك، كلما كانت حياتك أنجح.

عن نفسي أقول كل أمانيي تتوق للقرارات العقلانية... لكن هل سأقوم بذلك دوماً، لا أظن فالإنسان أوهن من ألا تلهو به مشاعر، وأضعف من أن يقاومها كلياً... لا تبالغ في رزانتك ستبقى إنساناً.


بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٣ أبريل ٢٠٢٥
كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بقية المقالات