الخروج عن السرب

في القرن التاسع عشر لم يكن الوسط الطبي آنذاك يعرف الجراثيم ، ولم يكن يعتقد أن القذارة قد تكون سبباً في نقل الأمراض و زهق الأرواح ، وكان من الطبيعي جداً أن تكون أغطية أسرة المستشفيات مليئة بالبول والقيء والفطريات والديدان ... وكان يطلقون عليها نتانة المستشفى التقليدية .
في المستشفيات .. وفي قسم الولادة بالتحديد كانت غالبية النساء يُصبن بحمى النفاس بعد الولادة ، وكانت امرأة بين كل خمسة نساء يتوفاها الأجل بسبب الحمى ، ولم يخطر حينها على بال الأطباء أن قذارة المستشفى هي التي تُلهب جروح الولادة وتُسبب الحمى .
في وسط ذلك الجهل ...لاحظ الطبيب "أجناتس سيملفيس Ignaz Semmelweis " مدير مستشفى فيينا أن أجنحة الولادة التي يديرها طلاب الطب الذكور تتضاعف فيها حالات الوفيات ، ويمتن ثلاثة بين كل خمسة نساء بالحمى .
وكان الأطباء حينها يفسرون ذلك بأن الطلاب الذكور أكثر قسوة في تعاملهن مع النساء ، وبالتالي يكُنَّ أكثر عرضة للإصابة بالحمى ، إلا أن السيد "سيملفيس" لم يكن مقتنعاً بهذا التبرير ، وكان يبحث عن سبب ذلك وحَلِّه .
وفي عام 1847م زار أحد أصدقاء السيد "سيملفيس" المستشفى لوجود جرح في يديه ، وكان بصحة جيدة ، إلا أنه وبعد زيارته للمستشفى وخياطة الجرح ارتفعت حرارته ، ليموت بالحمى الشبيهة بحمى النفاس .
استنتج حينها السيد "سيملفيس" أن الحمى تأتي بسبب العدوى سواء من أسرة المستشفى الملوثة ، أو من الأطباء وأيديهم الملطخة بدماء العمليات والتشريح ، وبالتالي تلتهب جراح المرضى والأمهات ويتوفاهن الأجل ، وهذا تعليل منطقي لوفاة النساء بأجنحة طلاب الطب أكثر من القابلات ، فأيديهم عادة ما تكون ملوثة بالدم .
أمر السيد "سيملفيس" بتنظيف المستشفى وتبديل أغطية الأسرة بشكل دوري ، وأمر الأطباء والطلاب الذين يقومون بالعمليات والتشريح وتتلطخ أيديهم بالدماء أن يغسلوها بالصابون والكلور المطهر قبل الدخول إلى قسم الولادة أو إجراء العمليات .
حفظت فكرة "سيملفيس" أرواح الأمهات ، إذ أصبحت امرأة واحدة فقط من أصل خمسين تتوفى بسبب حمى النفاس ، ورغم ذلك لم يقتنع الوسط الطبي باستنتاجاته ، إذ أنه بكلامه هذا يتهمهم بنقل الأمراض وتسبُّبِ بالوفيات ، وكانوا يتذمرون من غسل أيديهم ، إذ يرونه عملاً تافهاً غير ذا جدوى .
فتعالت الأصوات الرافضة لحماقة "سيملفيس" والمنادية بطرده من المستشفى ، فطردوه ونبذوه وعاد إلى موطنه المجر ، ومنعوه من ممارسة الطب ، فكان مجرد طبيب فخري من غير راتب في مستشفى صغير في بودابست .
وكان هذا المستشفى يعج أيضاً بحالات وفاة حمى النفاس ، فأقنع ملاك المستشفى بفكرته ، وبعد تطبيقها بحرص اختفت حالات الوفاة نهائياً .
إلا أن زملاؤه الأطباء كان يرونه أحمقاً مجنوناً يأمرهم بأشياء عديمة الفائدة ، لكنه لم يستسلم فكان دائماً ما يحاول اقناعهم بضرورة غسل اليدين ، ويعرض عليهم الاحصائيات المؤيدة لفكرته .
الأطباء اعتبروا أن إلحاح "سيملفيس" على غسل اليدين لحفظ الأرواح ليس تصرفاً طبيعياً ، بل نوبة من جنون !!! ، فأخذوه غفلة إلى مصحة نفسية وأودعوه هناك .
ولأنه حاول ضرب الممرضين الذين أرغموه على دخول المصحة جُرحت يده ، فأتى له في اليوم التالي أحد الأطباء كي يخيط جرحه ، وكانت يداه ملطخة بالدماء ، فطلب منه "سيملفيس" أن يغسل يديه قبل ذلك ، إلا أنه رفض واعتبره طلباً من مجنون لا قيمة له .
وبعد أن أخاط جرحه ... التهب وتحول إلى غرغرينا ، وأصيب "سيملفيس" بالحمى بسبب تلوث الجرح ، ليموت بعدها بأسبوعين في المصحة عن عمر يناهز 47 عاماً .
وكان آخر ما كتبه "سيملفيس" في المصحة :
"عندما أنظر إلى الماضي يذهب عني حزن الحاضر ، إذ أنني أتخيل مستقبلاً سعيداً ستتوقف فيه العدوى وستكون الأمهات والمرضى بخير ، الاقتناع بأن هذه اللحظة ستحين عاجلاً أم آجلاً يجعل ساعة موتي أسعد . "
السيد "سيملفيس" كان أول طبيب يغرد خارج السرب ، ويعاند جميع الأفكار المحيطة به انتصاراً لأفكاره ، ولم يبالي باتهامه بالجنون ، بل آمن بعقله واستنتاجاته وإحصاءاته فقط دون أن يتأثر بغيره فيتراجع عنها .
وهذا استثناء يجب التوقف عنده والتأمل به ....
إن غالبية البشر تتأثر بأفكار المجموعة المحيطة بها ، بل قد يكذب البشر ما يرونه بأعينه ويقتنعوا بما يقوله الآخرون ، وهو ما يسميه علماء النفس " العقل الجمعي " .
إن في أدمغتنا نمطين من التفكير ، الأول "العقل الفردي" ، وهو تفكيرنا عندما نكون بمفردنا ، والذي تنتج عنه قناعاتنا الشخصية وتصرفاتنا وأفكارنا ، أما النمط الآخر "العقل الجمعي" فهو النمط الذي تتشوه فيه أفكارنا وتصرفاتنا وتتأثر بوجهة نظر المجموعة ، لأننا نفترض حينها أن الآخرين يعرفون أكثر منا ، وأن تصرفاتهم هي الأصح فنتقبلها دون تفكير .
إن للمحيطين بنا أثر علينا يفوق تصورنا ... وإليك هذه التجربة .
أحضر عالم النفس الطبيب سلومون آش Solomon Asch طالب جامعي إلى مختبره ، وأجلسه مع بعض القائمين على التجربة والذين مثلوا دور طلاب مشاركين في التجربة أيضاً ، ثم طلب منهم مهمة بسيطة ، وهي اختيار خط من الصورة اليمين يتساوى حجماً مع الخط الذي في الصورة اليسار .

عرض عليهم السيد سلومون 18 صورة ، وطلب منهم أن يقولوا الإجابة الصحيحة بصوت عالٍ ، على أن يكون الطالب الحقيقي آخر ناطق بالإجابة ، وفي أول صورتين اختار الممثلون الخط الصحيح ، وبعد ذلك يتعمد الممثلون أن يختاروا جميعاً إجابة خاطئة موحدة ، ليرى السيد سليمون إن كان الطالب الحقيقي سيتأثر بالأجوبة الخاطئة أم سيقول الجواب الصحيح الذي أمام عينيه .

أقام السيد سلومون هذه التجربة على 100 طالب ، وكانت النتيجة أن 75 طالباً اختاروا الإجابة الخاطئة ولو لمرة واحدة على الأقل من 18 صورة متأثرين بإجابات الممثلين .

و35 طالباً اختاروا أكثر من خمسة إجابات خاطئة متأثرين برأي البقية رغم سهولة الأجوبة الماثلة أمام أعينهم .

لقد كذبوا أعينهم ليقتنعوا برأي غيرهم !!! .

كان السيد سلومون يقابل الطلاب الحقيقيين بعد التجربة ليسألهم عن سبب اختيارهم للأجوبة الخاطئة ، وفي جميع الحالات كان الطلاب يبررون الخطأ بتأثرهم برأي المجموعة وافترضوا أن البقية يعرفون أكثر منهم !! .

إننا قد نغير رأينا مخالفين ما نراه أمام أعيننا ... فَلَكَ أن تتخيل مدى تأثرنا برأي غيرنا في الأفكار المعقدة .

( فيديو التجربة https://youtu.be/TYIh4MkcfJA )

ماذا عن تصرفنا ... هل سنتصرف بحماقة لا منطقية إن كان غيرنا يتصرف بها ؟

في تجربة أجراها أستاذ علم النفس جونا برجر Jonah Berger من جامعة بنسلفانيا في إحدى العيادات ، يجلس القائمين على التجربة في كراسي انتظار العيادة ، ممثلين دور المراجعين ، وعندما يدخل المراجع الحقيقي ويجلس معهم ، يتم تشغيل صوت صافرة بين الحين والآخر ، فيقف الممثلون عند سماعهم صوت الصافر .

ويكرروا هذا الفعل مراراً ، ورغم أن المراجع الحقيقي لم يطلب منه أحد القيام عند سماع صوت الصافرة ، إلا أنه يقوم بتقليدهم ويقف عند كل صافرة دون أن يفهم سبب قيامهم . ( يعني مع الخيل يا شقرا 😜 )

وعندما يخرج جميع المراجعين الممثلين من صالة الانتظار ... ويبقى المراجع الحقيقي لوحده فإنه غالباً ما يستمر بالوقوف عند سماع صوت الصافرة !! 

بعد ذلك يدخل ممثل "مراجع" إلى العيادة ويجلس بجانب المراجع الحقيقي ، فإن رآه يقف عند كل صافرة يسأله لماذا تقف عند كل صافرة ؟! ، وكانت معظم الإجابات " لا أدري .. هكذا يفعلون هنا عند سماع صوت الصافرة !! " .

أجريت التجربة على 50 مراجع ... وجميعهم بلا استثناء قلدوا الآخرين ووقفوا لسماع صوت الصافرة ، رغم أنه لم يُطلب منهم ذلك .

( فيديو التجربة .. مضحك جداً - https://youtu.be/-7iN0V-GbM0 )

تصرف المراجعين لا منطقي ، فعلوا ذلك محاكاةً للآخرين دون فهم السبب !! .... هكذا نتأثر بغيرنا .

ويعلق السيد جونا على هذه التجربة قائلاً : إننا نتعلم في سن مبكرة أن نتبع خطى مجموعتنا ونشعر بالحاجة للانضمام إليها حماية لنا ، لأن هذا يجعلنا نبدو اجتماعيين ويعطينا شعوراً بالراحة .

هذه التجارب – وهناك الكثير غيرها – تبين لك الأثر البالغ للمجموعة على أفكارنا وتصرفاتنا ، وتشرح لك مثلاً لماذا يختار الناس المطعم أو المقهى الأكثر ازدحاماً ، لأنهم غالباً ما يعتبرون الزحام دليلاً على الأفضلية .

ومن ذلك فالسيد "سيملفيس" كان واعياً بما فيه الكفاية ليؤمن بعقله الفردي ويتحدى به رأي المجموعة والوسط الطبي ، محاولاً انقاذ الأرواح ومنع انتشار العدوى ... هو قدوة رائعة أجدر أن تُتبع .

وهناك أمر آخر أود الإشارة إليه أيضاً ....

نظراً لأن البشر يتأثرون بالغالبية المحيطة بهم يتم استغلال ذلك لأغراض تسويقية أو حتى سياسية وتضليلية .

فمثلاً في برامج التواصل الاجتماعي تخلق الأنظمة الحكومية المستبدة الحمقاء جيشاً وهمياً إلكترونياً - الذباب الإلكتروني - ليدافع بكثافة عن قناعات الحكومة وتوجهاتها كي توهم الناس بكثرة المناصرين لها والمؤيدين لرأيها محاولة التأثير على ميولهم ، فتصرف على ذلك ملايين الدولارات والدراهم 😇 ، ومثال ذلك ما تقوم به اليوم بعض الحكومات العربية بتزيين التطبيع مع الصهاينة في منصات التواصل الاجتماعي .

ويقول بروفيسور تاريخ العلوم روبرت بروكتر Robert Proctor : "لو أردت ترسيخ الجهل في الناس ، وتبديل رأيهم وعقلهم الجمعي حول أمر ما فعليك بثلاثة خطوات : احرم الناس من المعلومة الصحيحة وانشر المعلومات الخاطئة ، انشر الشك في المفاهيم القائمة ، حاول تأسيس مفاهيم جديدة ." ، وهو ما أسماه بعلم الجهل Agnotology .

ولو أردت نموذجاً على ترسيخ الجهل وتضليل الناس على نطاق واسع باستخدام "العقل الجمعي" ، فلك أن تنظر لما يقوم به الاتحاد الأوروبي اليوم من محاولة ترسيخ فكرة أن المثلية الجنسية والشذوذ أمر طبيعي جداً .

إذ عمدت وسائل الإعلام الغربية على ترسيخ فكرة أن الشذوذ خلل جيني ، ومشكلة عضوية لا يمكن حلها ، مع تجريم وازدراء كل من يناهض ذلك ، وهو ما خلق فعلاً توجهاً جمعياً بضرورة السماح للشواذ بممارسة حقهم في الزواج وما أشبه .

أما العلم والدراسات الأكاديمية غير المضللة لا تدعم ذلك بل تصفه بالهراء ، وكما تقول الكاتبة العلمية بريار وايتهيد Briar Whitehead في مقدمة كتابها الرائع "جيناتي جعلتني أفعله" : إن الغرب شن حملة من التضليل والخداع في السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة جعلت مؤسساته العامة من المشرعين إلى القضاة ومن الكنائس إلى التخصصات الذهنية الصحية يؤمنون بشكل واسع أن المثلية الجنسية موروثة عضوياً وبالتالي لا يمكن تغييرها .

وتحلل بكتابها التضليل الحاصل ، وتأثيرهم على العقل الجمعي ، والنقض العلمي لادعاءاتهم .

لذا سيدي القارئ إن كنت تؤمن بفكرة ما فلا تنجرف خلف رأي المجموعة ، كُن كالطبيب "سيملفيس" الذي آمن بفكرته وتحدى الجميع رغم اتهامه بالجنون ، وكان البذرة الأولى لنظام الصحة الوقائية العالمي ، والذي ينقذ البشرية اليوم خاصة بأزمة الوباء التي نمر بها .

ولا تنخدع بكثرة المؤيدين لفكرة ما ... فالكثرة قد تغلب الشجاعة لكنها لا تجعل من الغباءِ ذكاءً ، يبقى الخطأ خطأً ولو آمنت به البشرية بأجمعها .

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٣ أبريل ٢٠٢٥
كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بقية المقالات