فلسطين... اختبار تعاطف وإنسانية

"هل البشرية ما زالت بخير؟" لعله أكثر سؤال يحدث ضجيجاً في دماغي منذ فترة....
تغلي على الساحة العالمية هذه الفترة القضية الفلسطينية، بل لطالما كانت كذلك منذ النكبة أو حتى ما قبلها، ولعلنا في مناطقنا العربية نتعاطف بقلوب صادقة مع تلك المشاهد الدموية التي يندى لها الجبين ويتلظى لها القلب.
رغم أن شخصيتي أبعد ما تكون عن الخوض في النقاشات الجدلية، إلا أنني منذ أيام أُقحمت في نقاشٍ مع شرذمة تبتعد أميالاً عن الإنسانية، إذ كانت ترى ما يحدث في فلسطين شأناً خارجياً لا يمت لها ولمشاعرها في شيء، ولعلك سيدي القارئ قد ابتليت بأحدهم في الفترة الماضية.
ولربما تسلل إلى قلبك -كما هو الحال لدي- لماذا لا يتعاطفون كما نفعل نحن... أليسوا بشراً؟
هبني من لدنك دقائقاً أوضح لك ذلك...
التعاطف يا سيدي القارئ عملية دماغية تنطوي على قدرة أن يضع الإنسان نفسه في الموقف العقلي للأشخاص الآخرين لفهم أفكارهم وعواطفهم ثم التصرف بناءً عليها، والخلايا الدماغية التي تـتيح لنا التعاطف هي "الخلايا المرآة – Mirror Neurons"، والتي تكمن وظيفتها في مراقبة ما يقوم به الآخرون، والاحتذاء بهم ومجاراتهم، سواء كان ذلك على مستوى الأفعال -كالتثاؤب، أو على مستوى المشاعر -كالحزن-.
ولكن للأسف إن الدماغ البشري عموماً متعصب في عملية التعاطف منحاز كلياً وعنصري بعض الشيء... وإليك هذه التجربة.
أجرى الرائع عالم الأعصاب الإيطالي أليسو أفنتاري Alessio Avenanti تجربة مثيرة، إذ أحضر مجموعة من المتطوعين الأوربيين ذوي البشرة البيضاء، ومجموعة أخرى ذو أصول أفريقية ببشرة داكنة، ثم عرض على كل المتطوعين مقطع مصور لدخول إبرة في يد بيضاء البشرة فيخرج الدم منها، ثم فيديو آخر ليد داكنة البشر يُصيبها ما أصاب الأولى، وكان الدكتور أفنتاري يراقب نشاط أدمغة جميع المتطوعين من خلال جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ FMRI، ورأى أن المتطوعين يتعاطفون مع الكل، ولكن -وبفرق ملحوظ جداً جداً- كان المتطوعون الأوربيين يتعاطفون أكثر مع أشباههم في البشرة، كذلك الأفارقة يتعاطفون أكثر مع ذوي البشرة الداكنة.
أي أن تعاطفنا منحاز ويميل -دون أن نشعر- لأشباهنا، سواء كان ذلك بلون البشرة أو غيرها.
أما المحاضِرة اللبقة دكتورة علم النفس السويسرية السيدة تانيا سِنغر Tania Singer أجرت تجربة أخرى لتؤكد عنصرية تعاطفنا، إذ دعت لمختبرها مجموعتين من روابط التشجيع لفريقين متنافسين في دوري كرة القدم السويسري.
وكانت تُري أعضاء كل رابطة مشجعاً من فريقهم -هو في الحقيقة ممثل- ومشجعاً من الفريق المنافس -ممثل أيضاً- يتعرضان لخمسة عشر صعقة كهربائية -وهمية- فيتظاهر الممثل حينها بالآلام وتعلو صيحاته، وكانت تراقب أدمغة أعضاء الرابطة من خلال أجهزة الـFMRI سالفة الذكر، وكانت توقف التجربة قليلاً بعد الصعقة الخامسة، وتسألهم عن مدى التعاطف والألم، وتكمل مشاهد الصعق.
وكما تبادر إلى ذهنك الآن... بعد الصعقة الخامسة، أظهر المشجعون تعاطفاً أكثر مع آلام مشجع فريقهم فقط، بل كانوا على استعداد تام لتقديم المساعدة للمشجع وتخليصه من آلامه ولو بتوزيع الصعقات العشر المتبقية على أعضاء الرابطة أجمع بدلاً منه، والأدهى من ذلك أن شديدو التعصب الكروي كانت تنشط في أدمغتهم منطقة المكافأة في النواة المتكئة -وهي المنطقة التي تنشط عندما نربح المال أو بعد الجماع مثلاً- إذا رأوا آلام وصيحات مشجعي الفريق المنافس.
ولعل هذا الشيء يُفسر لك عدم تعاطف تلك الفئة من البشر مع الفلسطينيين أو فرحهم بما يحل بهم، هم لا يرون الأمر من زاوية الانتماء التي نراهم فيها، هم لا يرونهم -بعين صادقة- أخوة لهم في الإسلام فيستوجب ذلك تعاطفهم، أو لخلل في أحكامهم وطريقة تفكيرهم لا ينظرون لهم على أنهم نظراء لهم في الخلق... بشرٌ أمثالهم يستحقون التعاطف، وبالأخص أن قضيتهم قضية إنسانية محقة بكل المقاييس القانونية والإنسانية.
ولربما -ولمعايير أخرى- يرونهم يُمثلون حزباً منافساً لهم، فتسمع منهم أن هؤلاء المقاومون هم أذناب إيران أو حزب أخوان أو أو... من تلك التهم المعلبة والتصنيفات التي لا تمت للإنسانية، بل قريبة كل القرب من الأيديولوجيات السياسية النفعية التي يلهث وراءها الأتباع ممن تشربوا العبودية، وبربك!! كيف تشرح لعبدٍ شرف الحرية؟!
إن هذا التشويش الفكري الذي يعشعش في أدمغتهم يسبب خللاً في أحكامهم وأفكارهم، وبالتالي تشوهاً في مشاعرهم، وانعداماً للتعاطف.
دعني الآن آخذك لزاوية أخرى في التعاطف...
الدماغ حين يضع نفسه في الموقف العقلي للآخرين، فإنه تلقائياً -ودون وعي منه- يقوم بمقارنة نفسه بهم، فإن كانوا أعلى منه مكانة وقوة وسلطة أو أنبل أخلاقاً وشرفاً فإن ذلك قد يضر باحترامنا لذواتنا إذ سنراها أقل من غيرها وفقاً لتلك المقارنة، لذلك فإن الدماغ يحاول قدر المستطاع عدم التعاطف معهم، حفاظاً على احترام ذاته.
في دراسة لدكتور علم النفس الصيني Xiuyan Guo -وزملائه- عام 2012، كان الهدف منها اختبار درجة تعاطفنا بناءً على الوضع المالي، فأتوا بمجموعة من الأشخاص من ذوي الدخل المتوسط، وعُـرض عليهم مقاطع مصورة لأفراد في مواقف مؤلمة، كأن يتم وخز إبرة في أذن أحد، أو جرح إصبعه بسكين، وقبل ذلك يخبرون المشاركين أن الشخص الذي سيشاهدونه إما تاجراً يتلقى مبلغاً كبيراً من المال، أو أنه فقير فقرٌ مدقع، وبينما هم يشاهدون تلك المقاطع يتم تتبع أدمغتهم ونشاطها من خلال جهاز الأشعة الـFMRI.
رأى الدكتور Guo أنه عندما تستثار الخلايا المرآة للتعاطف كان ينشط معها منطقة في الدماغ تُسمى Insula"" والقشرة الأمامية للدماغ " ACC "وهي المناطق التي تنشط عادة إذا ما شعرنا نحن بالألم، إي إننا نرى أن آلام الآخرين هي آلامنا حرفياً، ولكن كانت أدمغة متوسطي الدخل تتفاعل بشكل ملحوظ جداً مع الفقراء ومن دونهم بالمستوى، بينما يقل نشاطها بشكل غريب في حالة الأغنياء بل قد تكون معدومة.
عدم تعاطف تلك المجموعة من ذوي الدخل المرتفع -كما يقول الدكتور Guo- هو حيلة يلجأ لها الدماغ كي لا يشعر بالمهانة عند المقارنة اللاشعورية التي تُصاحب التعاطف.
ولعل تلك الحفنة من البشر التي لا تتعاطف مع مجاهدي فلسطين أو شعبها عموماً يتجنبون التعاطف كي لا يضعوا أنفسهم في تلك المقارنة، فحقير طَيع تُبع سيخسر أدنى مقارنة مع مقاومون يرمون أنفسهم أمام البنادق حباً في شهادة، مستميتين بالدفاع عن أرضهم بكل شرف... فأين الثرى من نجوم الثريا.
ولندع تلك الشرذمة قليلاً وهبني أُحدثك عن التعاطف والإنسانية... بل عنك سيدي القارئ.
إن تعاطفك مع الآخرين وإبداء تلك المشاعر الإنسانية هو ما يصنع منك إنساناً، فليس البشر دون شعور إلا كألواح خشبٍ مسندة، أو كما يقول الشاعر الحذق إيليا أبو ماضي:
أَيقِظ شُعورَكَ بِالمَحَبَّةِ إِن غَفا *** لَولا الشُعورُ الناسُ كانوا كَالدُمى
إن الحياة -سواء الوظيفية أو الاجتماعية أو غيرها- تقودك للاحتكاك بالآخرين، والبشر كائنات عاطفية شعورية، وعدم إبداء التعاطف سيقلل من جودتك على مستوى الوظيفة أو حتى على مستوى الإنسانية والتعامل، فعدم التعاطف مثلبة كبرى لمن يرغب في النجاح.
في كتابها المميز حقاً " التأثير العاطفي – The Empathy Effect " تحكي الدكتورة هيلين ريس Helen Riess أنها قصدت يوماً طبيب الرعاية الأولية، وكان يجلس في مكتبه وشاشة الكمبيوتر تُغطي جزءاً من وجهه، فنظر لها ثم نظر للشاشة حيث نتائج الفحوصات وقال لها ببرودة أعصاب: "أنتِ في خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني لذلك يجب أن تخسري 25 رطلاً من وزنك".
تقولين هيلين أنها امتعضت بشدة من لامبالاة الدكتور، وكلامه أورثها كآبة لمدة يوم كامل وأثار فيها شعلة غضب، وكان السبب واضحاً لها وهو عدم تعاطف الطبيب مع حالتها والخطر المحدق بها.
أجرت هيلين بعدها دراسة في إحدى المستشفيات وأعطت المرضى المراجعين أوراقاً لتقييم الأطباء ومدى كفاءتهم، وتحتوي الاستمارة سؤالاً حول تعاطف الطبيب، فكانت النتيجة كلما كان الدكتور أكثر تعاطفاً مع المرضى كلما كان أكثر كفاءةً في أعينهم، وهذا ما ينعكس تماماً على مدى استجابتهم للعلاج ونصائح الطبيب، فالتعاطف يخلق بيئة حميمة وجميلة في أي عمل.
ففي دراسة استقصائية شملت أفضل 160 شركة في عام 2015 في أمريكا، كان موظفي الشركات العشرة الأولى يقيمون مدراء الشركة والمشرفين أنهم أكثر تعاطفاً معهم وأعلى مودة ورحمة.
إن تعاطفك يا سيدي القارئ سمة إنسانية، ترقى بروحك وجودة حياتك نحو الأفضل، ولكن للأسف قد يشوهها بعض التعصب أو العنصرية أو التحزب، لذا أرجو أن تكون هذه الكلمات اليسيرة جلت عن عينيك التشويش الذي قد يصيب مشاعرك وتعاطفك، لتكون إنساناً يتقبل الآخرين ويحنو عليهم دون شروط أو تحيز.
ولعل أروع موعظة قيلت في التعاطف مع الآخرين والتحنن عليهم، هي ما أوصى به أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أيام خلافته لوالي مصر آنذاك مالك الأشتر إذ كتب له: أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ.
دمت بمشاعر إنسانية وود.


