فلسطين... اختبار تعاطف وإنسانية

"هل البشرية ما زالت بخير؟" لعله أكثر سؤال يحدث ضجيجاً في دماغي منذ فترة....

تغلي على الساحة العالمية هذه الفترة القضية الفلسطينية، بل لطالما كانت كذلك منذ النكبة أو حتى ما قبلها، ولعلنا في مناطقنا العربية نتعاطف بقلوب صادقة مع تلك المشاهد الدموية التي يندى لها الجبين ويتلظى لها القلب.

رغم أن شخصيتي أبعد ما تكون عن الخوض في النقاشات الجدلية، إلا أنني منذ أيام أُقحمت في نقاشٍ مع شرذمة تبتعد أميالاً عن الإنسانية، إذ كانت ترى ما يحدث في فلسطين شأناً خارجياً لا يمت لها ولمشاعرها في شيء، ولعلك سيدي القارئ قد ابتليت بأحدهم في الفترة الماضية.

ولربما تسلل إلى قلبك -كما هو الحال لدي- لماذا لا يتعاطفون كما نفعل نحن... أليسوا بشراً؟

هبني من لدنك دقائقاً أوضح لك ذلك...

التعاطف يا سيدي القارئ عملية دماغية تنطوي على قدرة أن يضع الإنسان نفسه في الموقف العقلي للأشخاص الآخرين لفهم أفكارهم وعواطفهم ثم التصرف بناءً عليها، والخلايا الدماغية التي تـتيح لنا التعاطف هي "الخلايا المرآة – Mirror Neurons"، والتي تكمن وظيفتها في مراقبة ما يقوم به الآخرون، والاحتذاء بهم ومجاراتهم، سواء كان ذلك على مستوى الأفعال -كالتثاؤب، أو على مستوى المشاعر -كالحزن-.

ولكن للأسف إن الدماغ البشري عموماً متعصب في عملية التعاطف منحاز كلياً وعنصري بعض الشيء... وإليك هذه التجربة.

أجرى الرائع عالم الأعصاب الإيطالي أليسو أفنتاري Alessio Avenanti تجربة مثيرة، إذ أحضر مجموعة من المتطوعين الأوربيين ذوي البشرة البيضاء، ومجموعة أخرى ذو أصول أفريقية ببشرة داكنة، ثم عرض على كل المتطوعين مقطع مصور لدخول إبرة في يد بيضاء البشرة فيخرج الدم منها، ثم فيديو آخر ليد داكنة البشر يُصيبها ما أصاب الأولى، وكان الدكتور أفنتاري يراقب نشاط أدمغة جميع المتطوعين من خلال جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ FMRI، ورأى أن المتطوعين يتعاطفون مع الكل، ولكن -وبفرق ملحوظ جداً جداً- كان المتطوعون الأوربيين يتعاطفون أكثر مع أشباههم في البشرة، كذلك الأفارقة يتعاطفون أكثر مع ذوي البشرة الداكنة.

أي أن تعاطفنا منحاز ويميل -دون أن نشعر- لأشباهنا، سواء كان ذلك بلون البشرة أو غيرها.

أما المحاضِرة اللبقة دكتورة علم النفس السويسرية السيدة تانيا سِنغر Tania Singer أجرت تجربة أخرى لتؤكد عنصرية تعاطفنا، إذ دعت لمختبرها مجموعتين من روابط التشجيع لفريقين متنافسين في دوري كرة القدم السويسري.

وكانت تُري أعضاء كل رابطة مشجعاً من فريقهم -هو في الحقيقة ممثل- ومشجعاً من الفريق المنافس -ممثل أيضاً- يتعرضان لخمسة عشر صعقة كهربائية -وهمية- فيتظاهر الممثل حينها بالآلام وتعلو صيحاته، وكانت تراقب أدمغة أعضاء الرابطة من خلال أجهزة الـFMRI سالفة الذكر، وكانت توقف التجربة قليلاً بعد الصعقة الخامسة، وتسألهم عن مدى التعاطف والألم، وتكمل مشاهد الصعق.

وكما تبادر إلى ذهنك الآن... بعد الصعقة الخامسة، أظهر المشجعون تعاطفاً أكثر مع آلام مشجع فريقهم فقط، بل كانوا على استعداد تام لتقديم المساعدة للمشجع وتخليصه من آلامه ولو بتوزيع الصعقات العشر المتبقية على أعضاء الرابطة أجمع بدلاً منه، والأدهى من ذلك أن شديدو التعصب الكروي كانت تنشط في أدمغتهم منطقة المكافأة في النواة المتكئة -وهي المنطقة التي تنشط عندما نربح المال أو بعد الجماع مثلاً- إذا رأوا آلام وصيحات مشجعي الفريق المنافس.

ولعل هذا الشيء يُفسر لك عدم تعاطف تلك الفئة من البشر مع الفلسطينيين أو فرحهم بما يحل بهم، هم لا يرون الأمر من زاوية الانتماء التي نراهم فيها، هم لا يرونهم -بعين صادقة- أخوة لهم في الإسلام فيستوجب ذلك تعاطفهم، أو لخلل في أحكامهم وطريقة تفكيرهم لا ينظرون لهم على أنهم نظراء لهم في الخلق... بشرٌ أمثالهم يستحقون التعاطف، وبالأخص أن قضيتهم قضية إنسانية محقة بكل المقاييس القانونية والإنسانية.

ولربما -ولمعايير أخرى- يرونهم يُمثلون حزباً منافساً لهم، فتسمع منهم أن هؤلاء المقاومون هم أذناب إيران أو حزب أخوان أو أو... من تلك التهم المعلبة والتصنيفات التي لا تمت للإنسانية، بل قريبة كل القرب من الأيديولوجيات السياسية النفعية التي يلهث وراءها الأتباع ممن تشربوا العبودية، وبربك!! كيف تشرح لعبدٍ شرف الحرية؟!

إن هذا التشويش الفكري الذي يعشعش في أدمغتهم يسبب خللاً في أحكامهم وأفكارهم، وبالتالي تشوهاً في مشاعرهم، وانعداماً للتعاطف.

دعني الآن آخذك لزاوية أخرى في التعاطف...

الدماغ حين يضع نفسه في الموقف العقلي للآخرين، فإنه تلقائياً -ودون وعي منه- يقوم بمقارنة نفسه بهم، فإن كانوا أعلى منه مكانة وقوة وسلطة أو أنبل أخلاقاً وشرفاً فإن ذلك قد يضر باحترامنا لذواتنا إذ سنراها أقل من غيرها وفقاً لتلك المقارنة، لذلك فإن الدماغ يحاول قدر المستطاع عدم التعاطف معهم، حفاظاً على احترام ذاته.

في دراسة لدكتور علم النفس الصيني Xiuyan Guo -وزملائه- عام 2012، كان الهدف منها اختبار درجة تعاطفنا بناءً على الوضع المالي، فأتوا بمجموعة من الأشخاص من ذوي الدخل المتوسط، وعُـرض عليهم مقاطع مصورة لأفراد في مواقف مؤلمة، كأن يتم وخز إبرة في أذن أحد، أو جرح إصبعه بسكين، وقبل ذلك يخبرون المشاركين أن الشخص الذي سيشاهدونه إما تاجراً يتلقى مبلغاً كبيراً من المال، أو أنه فقير فقرٌ مدقع، وبينما هم يشاهدون تلك المقاطع يتم تتبع أدمغتهم ونشاطها من خلال جهاز الأشعة الـFMRI.

رأى الدكتور Guo أنه عندما تستثار الخلايا المرآة للتعاطف كان ينشط معها منطقة في الدماغ تُسمى Insula"" والقشرة الأمامية للدماغ " ACC "وهي المناطق التي تنشط عادة إذا ما شعرنا نحن بالألم، إي إننا نرى أن آلام الآخرين هي آلامنا حرفياً، ولكن كانت أدمغة متوسطي الدخل تتفاعل بشكل ملحوظ جداً مع الفقراء ومن دونهم بالمستوى، بينما يقل نشاطها بشكل غريب في حالة الأغنياء بل قد تكون معدومة.

عدم تعاطف تلك المجموعة من ذوي الدخل المرتفع -كما يقول الدكتور Guo- هو حيلة يلجأ لها الدماغ كي لا يشعر بالمهانة عند المقارنة اللاشعورية التي تُصاحب التعاطف.

ولعل تلك الحفنة من البشر التي لا تتعاطف مع مجاهدي فلسطين أو شعبها عموماً يتجنبون التعاطف كي لا يضعوا أنفسهم في تلك المقارنة، فحقير طَيع تُبع سيخسر أدنى مقارنة مع مقاومون يرمون أنفسهم أمام البنادق حباً في شهادة، مستميتين بالدفاع عن أرضهم بكل شرف... فأين الثرى من نجوم الثريا.

ولندع تلك الشرذمة قليلاً وهبني أُحدثك عن التعاطف والإنسانية... بل عنك سيدي القارئ.

إن تعاطفك مع الآخرين وإبداء تلك المشاعر الإنسانية هو ما يصنع منك إنساناً، فليس البشر دون شعور إلا كألواح خشبٍ مسندة، أو كما يقول الشاعر الحذق إيليا أبو ماضي:

أَيقِظ شُعورَكَ بِالمَحَبَّةِ إِن غَفا *** لَولا الشُعورُ الناسُ كانوا كَالدُمى

إن الحياة -سواء الوظيفية أو الاجتماعية أو غيرها- تقودك للاحتكاك بالآخرين، والبشر كائنات عاطفية شعورية، وعدم إبداء التعاطف سيقلل من جودتك على مستوى الوظيفة أو حتى على مستوى الإنسانية والتعامل، فعدم التعاطف مثلبة كبرى لمن يرغب في النجاح.

في كتابها المميز حقاً " التأثير العاطفي – The Empathy Effect " تحكي الدكتورة هيلين ريس Helen Riess أنها قصدت يوماً طبيب الرعاية الأولية، وكان يجلس في مكتبه وشاشة الكمبيوتر تُغطي جزءاً من وجهه، فنظر لها ثم نظر للشاشة حيث نتائج الفحوصات وقال لها ببرودة أعصاب: "أنتِ في خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني لذلك يجب أن تخسري 25 رطلاً من وزنك".

تقولين هيلين أنها امتعضت بشدة من لامبالاة الدكتور، وكلامه أورثها كآبة لمدة يوم كامل وأثار فيها شعلة غضب، وكان السبب واضحاً لها وهو عدم تعاطف الطبيب مع حالتها والخطر المحدق بها.

أجرت هيلين بعدها دراسة في إحدى المستشفيات وأعطت المرضى المراجعين أوراقاً لتقييم الأطباء ومدى كفاءتهم، وتحتوي الاستمارة سؤالاً حول تعاطف الطبيب، فكانت النتيجة كلما كان الدكتور أكثر تعاطفاً مع المرضى كلما كان أكثر كفاءةً في أعينهم، وهذا ما ينعكس تماماً على مدى استجابتهم للعلاج ونصائح الطبيب، فالتعاطف يخلق بيئة حميمة وجميلة في أي عمل.

ففي دراسة استقصائية شملت أفضل 160 شركة في عام 2015 في أمريكا، كان موظفي الشركات العشرة الأولى يقيمون مدراء الشركة والمشرفين أنهم أكثر تعاطفاً معهم وأعلى مودة ورحمة.

إن تعاطفك يا سيدي القارئ سمة إنسانية، ترقى بروحك وجودة حياتك نحو الأفضل، ولكن للأسف قد يشوهها بعض التعصب أو العنصرية أو التحزب، لذا أرجو أن تكون هذه الكلمات اليسيرة جلت عن عينيك التشويش الذي قد يصيب مشاعرك وتعاطفك، لتكون إنساناً يتقبل الآخرين ويحنو عليهم دون شروط أو تحيز.

ولعل أروع موعظة قيلت في التعاطف مع الآخرين والتحنن عليهم، هي ما أوصى به أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أيام خلافته لوالي مصر آنذاك مالك الأشتر إذ كتب له: أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ.

دمت بمشاعر إنسانية وود.

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٣ أبريل ٢٠٢٥
كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بقية المقالات