"لقد غيرتني رحلاتي"

قبل أن أروي لك حكاية اليوم هبني أن أسألك

هل طعامك المفضل اليوم هو ذاته طعامك المفضل قبل عشر سنوات؟

هل صديقك المقرب اليوم هو ذاته صديقك المقرب قبل عشر سنوات؟

هل ما تؤمن به من مبادئ اليوم تُشبه تماماً ما كنت تعتقد به قبل عشر سنوات؟

تذكر أجوبتك.... وإليك الحكاية.

في عام 1923م وكعادته كان الروائي الشهير فرانس كافكا يسير في إحدى حدائق برلين عائداً إلى المنزل، إلا أنه هذه المرة رأى فتاة صغيرة في الحديقة تجهش بالبكاء، فلم يمتلك قلبه الرقيق إلا أن هرع إلى مساعدتها.

الطفلة كانت قد أضاعت للتو دميتها في الحديقة، ولتهدئتها ساعدها كافكا أولاً بالبحث عنها في أرجاء الحديقة، لكنه لم يجدها... ولعل طفلة أخرى قد وجدتها وأخذتها، ولكنه كان أعطف من أن يواجهها بالحقيقة.

فابتكر كافكا كذبة لمواساتها، وأخبرها أنها يجب ألا تقلق فلعل الدمية ذهبت في رحلة ما، ولا شك أنها سترسل لها رسالة تُخبرها عن حالها، وقال لها أنه ساعي بريد وسيتكفل بإحضار الرسالة، لذا واعد الطفلة في اليوم التالي في نفس التوقيت والمكان كي يُسلمها رسالةً من الدمية.

كافكا الكاتب المبدع بدأ بكتابة الرسائل على لسان الدمية، وعلى موعده في اليوم التالي سَـلَّـم رسالةً إلى الفتاة مكتوب فيها: "من فضلك لا تحزني علي، لقد ذهبت في رحلة لرؤية العالم، سأكتب لك عن مغامراتي".

ولمدة ثلاثة أسابيع كان كافكا يكتب رسائل الدمية يومياً ويسلمها إلى الطفلة أثناء عودته إلى المنزل مروراً بالحديقة، واصفاً فيها مغامراتها وما تمر به من مواقف، فكانت الطفلة تستمتع بقراءتها بشغف لمعرفة ما في العالم من مغامرات.

بعد ذلك اشترى كافكا دمية جديدة وأهداها إلى الطفلة على أنها دميتها المسافرة، نظرت لها الفتاة مستغربة... "هذه لا تشبه دميتي"، فأهداها كافكا رسالة مكتوب فيها "لقد غيرتني رحلاتي".

احتضنت الطفلةُ الدميةَ وعادت بها إلى المنزل مسرورة.... وتوفي كافكا بعد ذلك الموقف بسنة تقريباً بعمر يناهز الـ40 عاماً.

كبرت الطفلة... وبعد سنوات من ذلك الموقف وعندما كانت تُقلب دمية الطفولة المسافرة اكتشفت أن هناك رسالة محشوة في شق بسيط في جسد الدمية لم تُلاحظه من قبل، وكان كافكا قد كتب فيها "كل ما تحبه ستخسره في النهاية، ولكن سيعود الحب بشكل مختلف في آخر المطاف".

سيدي القارئ... إلى أي مدى غيرتك رحلاتك في الحياة؟ هل ما زلت تشبه نفسك التي كانت قبل عشر سنوات؟

أظنها قد غيرت بعضاً منك ولم تعد ذلك الشخص...

ما أود أتحدث به معك اليوم سيدي القارئ هو أننا في كل مرحلة عمرية من حياتنا نتخذ قرارات تؤثر على حاضر الشخص الذي سنكون عليه في المستقبل، ويحدث أحياناً أننا نندم على بعض قراراتنا التي اتخذناها سابقاً ونتحمل تبعاتها، كأن تقضي نسخة أحدهم الثلاثينية بعض أيامها في المحاكم للطلاق من زيجة قررتها نسخته العشرينية، أو كبالغ يدفع أموالاً لإزالة وَشمٍ وضعته نسخته أيام المراهقة... وهلم جراً.

ولكن مهلاً.... لماذا؟! أ لم يكن لدينا عقل حينها؟! أ لسنا ذات الشخص مع اختلاف الأعمار؟

الإجابة بكل بساطة أننا كدمية كافكا... لقد غيرتنا رحلات الحياة على مر الأيام، وليس كل ما كان يُناسبك بالأمس قد ينفعك لغدٍ، ولعل شيئاً مما كنت مقتنعاً به البارحة سترفضه اليوم.

إن الحياة تقوم بتغييرنا باستمرار دون أن نُلاحظ، لذلك غالباً ما نكون غير قادرين على التنبؤ بمدى التغير الذي سيطرأ على سمات شخصياتنا في المستقبل، فنقرر لها ما ستعيشه في الغد وفق سماتنا اليوم... وهنا تكمن المشكلة، فنندم على بعض فعلاتنا القديمة لأن ما أصبحنا عليه اليوم لا يتفق بالرأي كلياً مع ما كنا عليه في الماضي.

وللتوضيح أكثر... إليك هذه الدراسة.

نشر علماء النفس -دانيال جلبرت، تيموثي ويلسون، جوردي كويدباخ- دراسة بعنوان "وهم نهاية التاريخ"، أجروها على 7 آلاف شخص تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 68 عام.

طلبوا من نصف المشتركين في الدراسة أن يُسجلوا نظرتهم الحالية لطباعهم الشخصية، وقيمهم التي يؤمنون بها، والأشياء التي يفضلوها، وكيف كانت هذه الأشياء قبل عشر سنوات.

وطلبوا من النصف الآخر أن يسجلوا أيضاً نظرتهم الحالية لطباعهم الشخصية، وقيمهم التي يؤمنون بها، والأشياء التي يفضلوها، ولكن طُـلب منهم أن يتوقعوا ما سيبدون عليه بعد عشر سنوات من الآن.

بناء على إجابة كل المشتركين في الدراسة حسب الباحثون الثلاثة نسبة ومستوى التغير لكل فئة عمرية خلال عشر سنوات، فقارنوا من هم في 18 من العمر مع من هم في الـ28، والـ28 مع الـ38 .... وهلم جراً.

لاحظ الباحثون أن المشتركون الأصغر سناً يتغيرون أكثر على هذه الأصعدة الثلاثة، أما بعد الخامسة والخمسين فالتغير يصبح أبطأ فأبطأ لكنه لا يتوقف.

بَـيـدَ أنَّ النقطة الأهم في الدراسة هي إن جميع المشتركين الذين طُلب منهم أن يتوقعوا ما سيبدون عليه في المستقبل، كانوا يتوقعون تغيراً طفيفاً جداً في طباعهم وقيمهم وما يفضلونه، بينما الواقع -مقارنة بنسبة من سجلوا تغيرهم في السنوات العشر السابقة- أن الحياة تُغير الناس أكثر مما يظنون.

إننا كبشر نعتقد متوهمين أننا قد وصلنا إلى نهاية تاريخنا في النضج، فننظر لأنفسنا على أنها الآن بأفضل نسخة منا ولن تتغير كثيراً في المستقبل على ما نحن عليه الآن.

انظر إلى هذا...

الخط العلوي -في الصورة أعلاه- يُمثل التغير الذي حدث بالفعل -مع مرور الأيام- لقيمنا وما نؤمن به، والخط الذي تحته يُمثل التغير المتوقع، ولاحظ الفرق الشاسع سيدي القارئ بين ما نتوقع تغيره وبين التغير الذي حدث لنا بالواقع على مستوى المبادئ والقيم.

وهنا أيضاً ستلاحظ الفرق بين ما حدث من تغير بالفعل على طباعنا الشخصية، وبين ما نتوقع حدوثه، وهنالك فرق أيضاً.

وهنا التغير الذي حدث على تفضيلاتنا اليوم -ما نُفضله سواء من موسيقى أو أصدقاء أو طعام أو أو..-، وبين ما نتوقع تغيره في المستقبل وهناك فرق كبير بينهما.

الكثير ممن في العشرينات من العمر توقعوا أن أطعمتهم المفضلة اليوم ستكون ذاتها بعد عشر سنوات من الآن، لكن من كانوا في الثلاثينات أكدوا أن هناك تغير حدث بالفعل على ذائقتهم، وما يفضلونه اليوم مختلف شيئاً ما عما كان قبل عشر سنوات.

إن عدم إدراك حجم التغير الذي سيطرأ علينا يجعل بعضاً من قراراتنا المستقبلية غير حكيمة ومن الوارد جداً أن نندم عليها.

في دراسة أخرى سُئل العديد من الناس من متوسطي الدخل عن المبلغ الذي من الممكن أن ينفقوه لشراء هدية بعد عشر سنوات من الآن لعيد ميلاد صديقهم المفضل في الوقت الحالي، فكان متوسط الجواب هو 150 دولار، بينما سألوهم عن المبلغ الذي قد يبذلونه لشراء هدية عيد ميلاد لصديقهم الذي كان مفضلاً لديهم قبل عشرة سنوات فكان الجواب 70 دولار فقط!!

المنطق يقول إن الأمر واحد ويجب أن يكون هناك تقارب بين المبلغين وليس الضعف!!، فمن الوارد جداً أن يكون صديقك المفضل شخص آخر بعد عشر سنوات من الآن، لكن نحن البشر -وبالأخص من هم في منتصف العشرينات وما بعدها- نعتقد أننا وصلنا لمرحلة من النضج لن تتغير معها شخصياتنا وتفضيلاتنا كثيراً، وهذا ما سيجعلنا نندم لاحقاً... لأن رحلات الحياة ستغيرنا دون أدنى شك.

وفي دراسة شهيرة بعنوان "مواليد لوثيان" تم دراسة ما يقرب من ثلاثة آلاف مولود في مدينة لوثيان الإسكوتلندية ولدوا بين عام 1921 وعام 1947، وتم تتبع هؤلاء المواليد على مدار حياتهم ومعرفة الكثير من تفاصيلهم ووظائفهم وتعليمهم وما إلى ذلك.

القائمين على الدراسة أجروا مجموعة من الاختبارات على هؤلاء المواليد في مراحل مختلفة من حياتهم، كاختبارات الشخصية والذكاء غيرها.

لاحظ الباحثون أن هناك تغير ملحوظ في شخصياتهم ومبادئهم وتفضيلاتهم بمختلف مراحلهم العمرية، بل حتى مستوى الضمير لديهم أصبح أعلى، وتحملوا المسؤولية أكثر من ذي قبل مع تقدمهم بالعمر.

يقول رينيه موتوس Rene Mottus أحد أهم الباحثين القائمين على دراسة مواليد لوثيان حالياً: "يعتقد الكثير من الناس أنهم سيصبحون أكثر لطفاً وتعاوناً وتنظيماً وطاعة مع تقدمهم بالعمر، وهذا صحيح، فإن مثل هذه التغيرات هي الأكثر شيوعاً بين العينات التي تم دراستها.

والناس تصبح أكثر تقبلاً وضميراً واستقراراً عاطفياً مع مرور الوقت، وصحيح أن هناك تغيرات تصبح بالاتجاهات المعاكسة لدى البعض، لكن يبقى التطور الإيجابي هو الأكثر شيوعاً."

أحياناً نحاول بجد التفكير في المستقبل والاستثمار فيه، فنتخذ قرارات مستقبلية معتمدين بذلك على اختياراتنا وتفضيلاتنا الحالية في مواقف تحتاج منا بُعد نظر، كالزواج والعمل وشراء المنزل وما إلى ذلك من أشياء، وحتماً إدراك أننا سنتغير مستقبلاً يجعل القرار أكثر حكمة.

في بريطانيا أُقيمت دراسة على المتزوجين حديثاً، ممن كانت تربطهم علاقة حُب قبل الزواج، وسألوهم فور زواجهم عن احتمال طلاقهم في المستقبل، فأجابوا جميعاً بأنهم حتماً لن يتفرقوا مستقبلاً وسيستمر زواجهم، رغم أن نسبة الطلاق في بريطانيا 40%، أي أن بين كل خمسة أزواج تنتهي علاقة اثنان منهم بالطلاق.

الأزواج في الدراسة السابقة رجحوا احتمالية الاستمرار وفقاً لمنظورهم وتفضيلاتهم اليوم... وهذا ما سيجعل اثنان من كل خمسة منهم يندمون لاحقاً.... نعم من تختاره اليوم قد يكون شريكاً مثالياً لك هذه الفترة، لكن رحلات الحياة ستُغيرنا، وهذا ما لم يكن في حسبانك.

كذلك العمل والمنزل وغيرها من قرارات مستقبلية، يجب أن تدرك دائماً أنك ستصبح كدمية كافكا.. شخصاً آخراً، وهذا سيزيد من منطقية وصواب قراراتك المستقبلية... ولكن قد لا يفلح ذلك دوماً وقد تندم عليها بشدة.

إذن ما الحل؟ كيف أتخذ قرارات مستقبلية دون أن أتجرع ألم الندم؟

أولاً يجب أن تتقبل أيها الإنسان أنك مهما اجتهدت في محاولة التنبؤ بالمستقبل واتخاذ القرار الأفضل لن يفلح ذلك دائماً، الأمر كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} وهذا نظراً لمحدودية قدراتنا التفكيرية.

ولكن مهلاً.. هناك حل... ماذا لو اتخذت قرارتك وفقاً لقواعد ثابتة لا تتغير على مر الزمان؟

إن اتخاذ قرارات مبنية على أُسس راسخة كالدين أو الأخلاق الحسنة أو العلم -والتي لا تتغير إلا للأفضل على مر السنين- يجعل قراراتك مرضية ولن تندم عليها... أو بأسوأ حال ستكون أقل ندماً مما لو اتخذتها على تفضيلات شخصية.

فتلك الأسس ستكون سلوى لك وتخفيفاً عليك، بل غالباً ستشعر بالرضا عليها، فالشهيد الذي اتخذ قراراً بالموت في سبيل الله وقرر إنهاء مستقبله تماماً لن يتذمر بل سيكون مسروراً.

كذلك جيفارا الثائر الشجاع الذي نادى بمبادئ العدل والمساواة والحياة الكريمة للإنسان، كان يشعر بالرضا التام على ما اتخذه من قرارات حتى آخر لحظات حياته وقتله في سبيل ذلك.

وقراراتك المستقبلية الاقتصادية أو المادية لو اتخذتها على علم ودراية أو دراسة جدوى مثلاً، ثم فشلت بسبب ظروف الحياة، ستحزن بالتأكيد.... ولكن ستعشر بشيء من الرضا بداخلك لأنك تعلم أنك قمت بكل شيء ممكن لإنجاحها... فعلت ما بوسعك، وستكون درساً مفيداً للقرارات التي ستليها.

وهلم جراً على أمثلة مثل هذه...

قراراتنا التي نبنيها على تفضيلاتنا وسماتنا الشخصية اليوم، هي أكثر قرارات نندم عليها بألم وحرقة مستقبلاً، بينما القرارات ذات الأسس الراسخة تكون أفضل حالاً وأوفر حظاً بالنجاح، وبحالة الفشل -لا قَدَّر الله- تكون أخف على مشاعرنا وألطف على قلوبنا... ورغم ذلك سيبقى الألم جزءاً أصيلاً من هذه الحياة مهما حاولنا تجنبه، ولكن وكما يقول المثل المصري "قضا أخف من قضا".

سيدي القارئ أرجو أن تكون كلماتي اليسيرة هذه أكدت لك أن التغير هو الشيء الوحيد الثابت في الحياة، وأن رحلات الحياة ستغيرك دون أدنى شك، وأرجو أن تعود بذاكرتك لقراراتك التي ندمت عليها بشدة وبألم، ستجدها قطعاً قرارات بُنيت على تفضيلات شخصية تغيرت مع مرور الأيام وليست على أسس راسخة... لعل ذاكرتك في هذا تكون درساً لك في قرارات المستقبل.

وكما قال كافكا في رسالته الأخيرة "كل ما تحبه ستخسره في النهاية، ولكن سيعود الحب بشكل مختلف في آخر المطاف"، وأقول تعقيباً عليه: ما بُني على أساس حسن سيعود لك نفعه وخيره في نهاية المطاف، وإن لم يكن في هذه الدنيا سيكون بعدها.. لكنه حتماً سيعود يوماً... وإن أخفق في فترة ما.

دِمت بود... وأتمنى لك مستقبلاً جميلاً يليق بلطف قلبك.

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٣ أبريل ٢٠٢٥
كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بقية المقالات