عَـمَّ السلام ... الحرب في دماغك فقط

هل تمتلك شيئاً تحمل معه الكثير من اللحظات والذكريات الجميلة؟ لو طلبنا منك بيعه... ما الثمن الذي تطلبه بالمقابل؟ وهل هو سعر عادل؟
في عام 1939م بدأت الحرب العالمية الثانية، والتي شاركت فيها إمبراطورية اليابان ضد أمريكا وحلفائها، ومن قرأ تاريخ الحرب يعلم تماماً أن اليابانيون متفانون لأقصى مدى في حب الوطن وتنفيذ الأوامر العسكرية، ككتيبة الطيارين "كاميكازي" والتي كانت تقوم بمهمات انتحارية ضد السفن الأمريكية.
أثناء اشتداد رحى الحرب الطاحنة عام 1942م التحق بالجيش الياباني شاب يُدعى "هيرو أونودا"، وخضع لتدريبات مكثفة ليكون ضابط مخابرات، وقد أثبت جدارته فيها. 
وفي عام 1944م استدعاه قائده، وأخبره بأنه سيهبط في إحدى جزر الفلبين مع بعض الجنود للقيام بأعمال تخريب هناك ضد الجيش الفلبيني والأمريكي المتمركزان فيها، وأوصاه بأن يتحمل المشقة وأن يبقى مختبئاً يتصيد الفرص لقتل الأعداء، وقال له بأن المهمة قد تستمر 5 سنين أو أكثر، ولكن مهما طالت فإن الجيش الياباني لا شك سينتصر وسيعود للبحث عنه وعن زملائه.
ما إن نزل "هيرو" وزملاؤه إلى الجزيرة تعرضوا لقصفٍ من الطيارات الأمريكية، فتبعثر الجنود ولم يبقى مع "هيرو" إلا ثلاثة، اختبئوا بالغابة وبدأوا القيام بكمائن للجيش الأمريكي كبدتهم خسائر في الأرواح والآليات الحربية.
بعد 9 أشهر من ذلك انتهت الحرب بإلقاء أمريكا القنبلة النووية على اليابان فأعلنت استسلامها، ونظراً لعدم وجود أدوات اتصالي لاسلكي مع "هيرو" لم يعلم وزملاؤه بذلك وواصلوا القتال.
رمي الأمريكيون منشورات في الجزيرة تقول (بأن الحرب انتهت... انزلوا من الجبال)، لكن "هيرو" ومن معه لم يصدقوها، فكيف لإمبراطور اليابان الذي لا يُقهر أن يخسر الحرب مع وجود جنود مضحين؟! واعتبروا المنشورات مجرد خدعة ستوقع بهم.
في نهاية عام 1945م ألقى الأمريكيون منشورات موقعة من جنرال الجيش الياباني تعطي الأمر لهؤلاء الجنود بإلقاء أسلحتهم، ولكنهم أيضاً لم يصدقوها واستمروا في القتال.
طلب الجيش الياباني من أقرباء "هيرو" وزملائه أن يكتبوا لهم رسائل على صور تذكارية ليضعوها لهم في الجزيرة كي يقنعوهم بانتهاء الحرب، إلا أن ذلك لم يجدي نفعاً أيضاً.
في عام 1949م وبعد انتهاء الحرب بأربع سنين، هرب أحد الجنود الثلاثة الذين برفقة "هيرو" من الغابة واستسلم إلى الجيش الفلبيني الذي عفى عنه وأرسله إلى اليابان، وطلبت منه السلطات هناك كتابة رسائل إلى زملائه تخبرهم بانتهاء الحرب، والتي لم تقنعهم أيضاً.
في عام 1954م عثرت دورية فلبينية على "هيرو" وزميليهِ ودار بينهم اشتباك عنيف أسفر عن قتل أحدهم، وبقى "هيرو" وزميله في أعماق الغابة يواصلان القتال يومياً دون هوادة، منتظرين من الجيش الياباني أن يأتي إلى جزيرة منتصراً كي يعود بهما إلى الوطن.
في عام 1972 أي بعد 27 عام من انتهاء الحرب كان "هيرو" وزميله يجهزان لحرق محصول الأرز في إحدى قرى الجزيرة، ففاجأهما الجيش الفلبيني وتبادلوا إطلاق النار الذي أسفر عن قتل زميل "هيرو" الأخير، وفَـرَّ هو إلى الغابة، وواصل القتال.
أرسلت السلطات اليابانية الكثير من البعثات بحثاً عن "هيرو" إلا أنها عادت خالية الوفاض، وفي عام 1974م ذهب شاب ياباني محب للطبيعة والتخييم إلى الجزيرة بحثاً عن "هيرو"، فعثر عليه وأقنعه بما آلت إليه الأمور والأحداث، إلا أن "هيرو" اشترط على الشاب أن يحضر له ضابطه السابق الذي أصدر له الأوامر عام 1944م كي يستسلم ويعود إلى اليابان.
وهذا ما حدث بالفعل، فالشاب عاد إلى اليابان بحثاً عن ذلك القائد، وبمساعدة السلطات اليابانية عثروا عليه، وكان حينها مجرد رجل عجوز يبيع الكتب، فلبس الضابط زيه العسكري وذهب إلى الجزيرة والتقى بـ"هيرو" وأمره أن يستسلم ويلقي سلاحه وسيفه ويعود إلى اليابان فقد انتهت الحرب.
أصيب "هيرو" بالذهول والخيبة .... أ هذا صحيح؟! هل خسرنا الحرب منذ ثلاثين عاماً؟! كيف يمكن أن تكونوا عاجزين إلى هذه الدرجة؟!
سـلَّـمَ نفسه إلى السلطات الفلبينية التي عفت عنه وأعادته إلى اليابان بعد 30 سنة من القتال والالتزام بالأوامر، فاستقبله الشعب استقبال الأبطال واحتفلوا به... إلا إنه كان محبطاً للغاية ولم يأبه لهم.

" هيرو أونودا" يسلم سيفه إلى حاكم الفلبين مستسلماً

كان "هيرو" مصدوماً من الشعب والامبراطور... كيف لهؤلاء الناس أن يتحالفوا اليوم مع أمريكا التي قتلت الآلاف من شعبهم؟ كيف لا يطلبون بثأرهم؟! هل كل تلك السنوات من التضحية كانت لهؤلاء الراضخين؟!

قرر "هيرو" ترك اليابان بمن فيها وهاجر إلى البرازيل واشترى مزرعة في أطراف الغابة، ولم يعد إلى اليابان إلا في الثمانينات كي يتزوج، وكان عمره حينها 62 عاماً، وتوفي عام 2014م عن عمر يناهز الـ91 عاماً. (هو تأخر اشوي بالزواج على ما كَـوَّن نفسه عرفت اشلون ... تبون تسألون عن ولدنا سألوا عنه بغابات الفلبين😜)

لماذا أصر "هيرو" على عدم الاستسلام ولم يقتنع بالمنشورات وكل المحاولات الأخرى؟ لماذا لم يتحمل اليابان وفَضل الهجرة ساخطاً؟

سأجيبك ... ولكن قبل ذلك إليك هذه التجربة .

في جامعة ديوك الأمريكية تعتبر كرة السلة أمراً بغاية الروعة، ويتمنى كل الطلبة الحصول على تذكرة لحضور إحدى مباريات فريق الجامعة في دوري الجامعات، ولكن الملعب لا يتسع لكل الطلبة، لذلك تقوم الجامعة بطقوس غريبة للطلبة الذين يجري في عروقهم الولاء المطلق للفريق.

تطلب الجامعة من الطلبةِ التخييمَ أمام الملعب لمدة 48 ساعة قبل المباراة، وفي أوقات متفرغة من تلك الساعات سيتم النفخ ببوق هوائي، وعلى كل راغب في التذكرة توثيق حضوره عند مشرفي التذاكر حينها، وإن لم يفعل ولو لمرة واحدة يُعتبر خارج السباق ولا يحصل على شيء... أي أن التذكرة تعني ترك كل مشاغل الحياة والتفرغ للتخييم أمام الملعب لمدة يومين.

وعادة ما يكون عدد الطلبة الملتزمين أكثر بكثير مما يسعه الملعب، لذلك تقوم الجامعة بعمل قرعة بين الطلبة، ويفوز من يفوز بالحظ.

في إحدى المباريات المهمة اتصل عالم الاقتصاد السلوكي الرائع دان آريلي بالطلبة الفائزين بالتذاكر وسألهم إن كانوا على استعداد لبيعها على زملائهم الذي بقوا معهم تلك المدة إلا أن الحظ لم يُحالفهم، وما هو السعر الذي يرغبون به بالمقابل؟

ثم اتصل على الطلبة الذين خذلهم الحظ وسألهم إن كانوا على استعداد لشرائها، وما هو السعر الذي قد يدفعوه من أجلها؟

 كان متوسط السعر الذي اشترطه الفائزون للبيع هو 2400 دولار، بينما الراغبين في الشراء كان متوسط ما هم على استعداد لدفعه هو 175 دولار فقط.

أصحاب التذاكر والراغبين في الشراء فكروا في المباراة بشكل متشابه، وضحوا بكل شيء لمدة يومين من أجلها، لذا فكلاهم يعرف قيمة المباراة ويتشاركون ذات الحماس لها، لكن لماذا كان هناك فجوة كبيرة بين السعر الذي يراه البائعون جيداً وبين السعر الآخر؟

الجواب -كما تفضل السيد آريلي- لأننا البشر نقع في حب الأشياء التي نمتلكها... هذه طبيعة فطرية، فنعطيها أكبر من قيمتها الحقيقية، وأدمغتنا التي تنظر للعالم من منظورها الخاص تتوقع من الآخرين أن يشاركوها ذات الرؤية، وأن ينظروا لجمال ما نملك بذات قَدر نظرتنا إليه... وهذا محال.

أضف إلى ذلك أننا عندما نريد بيع شيء نمتلكه فإن أدمغتنا تُركز على ما سنخسره أكثر مما سنكسبه، والخسارة إحساس مؤلم نحاول تغطيته بزيادة حجم الربح.

أصحاب التذاكر أحبوها جداً فور امتلاكهم إياها، واعتبروها شيئاً ساحراً باهض الثمن، وتوقعوا من البقية أن يروها كذلك، ثم إنهم ركزوا -في حال بيعهم إياها- على خسارة المتعة والشغف والأجواء الجماهرية الصاخبة التي كانوا سيحظون بها أكثر من تركيزهم على المال الذي سيتمتعون به.

أضف لذلك أن الشعور بالامتلاك ومحبة ما نملك يتأثر بمدى تعبنا ومساهمتنا في امتلاكه، فكلما زاد تعبك له زاد شعورك اتجاهه، وأصحاب التذاكر الذين خيموا يومين أمام الباب وقعوا في غرامها البتة، وسيطلبون ثمناً يليق بهذا الحب.

وعلى هذا قس ما سواه، فأنت لو كنت تمتلك لوحة بديعة وطُلب منك بيعها، فأنت غالباً ما ستتذكر تلك اللحظات التي تباهيت فيها أمام عائلتك باللوحة، وكلمات الإطراء التي سمعتها، والمشاعر الفياضة التي بقلبك اتجاهها نظراً لروعتها، والتي ستخسرها الآن بعد بيعك إياها، لذلك ستطلب سعراً مرتفعاً لأجلها... ولكنها حتماً لن تُباع بما تتمنى وستشعر بالإحباط.

والشعور بالامتلاك لا يقتصر على الأشياء المادية فقط... بل كذلك على الأفكار، فبمجرد أن تمتلك وجهة نظر حول شيء ما سواء في الدين أو السياسة أو حتى الرياضة ستحبها أكثر مما يجدر بك ذلك وتقدرها كثيراً، وتواجه صعوبة في التخلي عنها، حتى تكون متزمتاً لها دون أن تشعر.

بعد أن فهمت ذلك تأمل حال السيد "هيرو"... لقد قَـدَّم كل ما يملك لأجل الوطن حتى روحه، وفكرة التضحية والالتزام بالأوامر العسكرية مترسخة فيه، والعالم الذي كان يراه بعينيه هو عالم تنتصر فيه اليابان لا غير.

لم يكن سهلاً على نفسه بعد كل هذه التضحية أن يكون الخذلان ثمناً لما قدمه، وليس هيناً أن يتنازل عن فكرة التزامه، فأعماه ذلك عن الحقيقة وبقي عاكفاً عليها 30 عاماً... وعندما عاد إلى الأرض لم يتحمل الرضوخ وقرر الهجرة ممتعضاً.

ويمكنك تطبيق ذلك على كل مجالات الحياة....

مثلاً في علاقاتنا الاجتماعية مع الأقارب أو الأحبة نقدم لهم بعض التضحيات، ونبذل لأجلهم شيئاً مما نملك، ونتنازل لهم عن أفكار نحن مخلصين لها، وهذا ليس بالأمر الهين على النفس.

وكما تعلم سيدي القارئ فالعلاقات أخذ وعطاء، وعندما نقوم بذلك من أجل علاقتنا بهم فإننا نطلب منهم بالمقابل ثمناً على هيئة تضحية وتنازل واهتمام وحب وما أشبه، ولأننا نضخم قيمة ما نملك ونركز على ما خسرناه فغالباً سنطالبهم بأكثر مما نستحق في الواقع.

وكثيراً ما يشتكي الناس أن الآخرين لا يقدرون قيمة تضحياتهم، بينما الواقع -كما رأيت- أن الناس هم من يبالغون في قيمة ما يبذلونه لأجل الآخرين، وشعور الإحباط والخذلان الذي يشعرون به هم مسؤولون عنه تماماً.

إن فهمك لمبالغتك بحب الأشياء التي تمتلكها وتضخيمك لقيمتها وتركيزك على ما ستخسره أكثر مما ستربحه يجعلك أكثر واقعية في الحياة، سواء في معاملاتك التجارية أو تبني الأفكار أو علاقاتك الاجتماعية... وهذا ما سيعود على مشاعرك بالهدوء وسيرفع من جودة حياتك.

الخطأ الذي كلف السيد "هيرو" سنوات من العمر لن تُسترد هو مبالغته بإيمانه بأفكاره، وما جعله يترك وطنه هو الثمن الذي طلبه لقاء تضحيته ألا وهو النصر... وبالتالي ذهب عمره هباءً منثوراً.

سيدي القارئ...

تأمل في أفكارك التي تقاتل من أجلها... لعله قد عَـمَّ السلام والحرب في دماغك فقط.

تأمل في تضحياتك التي تقدمها للآخرين ثم ترفع سقف توقعاتك منهم... لعلها لا ترتقي إلى ذلك.

تأمل في الأشياء المطلوب منك التخلي عنها.... لعلك ستكسب منها أكثر بكثير مما ستخسر.

لا تخدع طبيعتك .... ما نمتلكه ليس بتلك العظمة.

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ٢٣ أبريل ٢٠٢٥
كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٩ سبتمبر ٢٠٢٤
كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 ١٢ يوليو ٢٠٢٤
ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.
بقية المقالات