ممتع حسب المصدر

هل أنت من عشاق الفن واللوحات ؟ هل زرت متحفاً يعرض لوحات لفنان مبهر مثل "فان كوخ" أو "دافنشي" أو العظيم "مايكل أنجلو" ؟
ماذا كان شعورك عندما شاهدت اللوحة ؟
في عام 1955م ولد الطفل "مارك" لأبوين مثقفين يعشقان الفن ، وكان أبوه عسكرياً أمريكياً يعمل في أوروبا .
الأب كان يصحب زوجته وابنه مارك إلى المتاحف ودور الفن ، والكنائس الأثرية المليئة بالرسومات لأشهر الفنانين ، ومن هناك بدأ ينمو في هذا الطفل حب الفن والرسم واللوحات .
في السابع عشر من عمر "مارك" توفى أبوه بسكتة قلبية ، تسببت له بأزمة نفسية حادة دخل على أثرها مستشفى الأمراض النفسية لمدة عام كامل .
عندما خرج "مارك" من المستشفى دخل إلى معهد الفنون في شيكاغو ، وكان معلموه يرونه فناناً بارعاً وسيكون له مستقبلاً زاهراً لا محالة .
بعد تخرجه من المعهد بدأ العمل في معارض الفن ، فكان يصلح اللوحات المتضررة بالبقع وما أشبه .
جمع خلال فترة عشر سنوات من العمل مبلغاً جيداً ، فقرر أن يقوم بمعرض خاص يعرض لوحاته وإبداعاته ، والذي قد يعود عليه بأرباح طائلة ، إلا أن المعرض فشل فشلاً ذريعاً ، وخسر كل ما يملك من المال .
كانوا رواد المعرض ينظرون إليه على أنه مجرد حشرة متطفلة على أنف الفن ، لذا شعر بالعار والإحباط جراء فشله ، فاهتزت ثقته بإبداعه وفنه ، وقرر أن يعود إلى بيت والدته ليقضي بقية حياته هناك .
قبل أن يعود إلى بيته قرر "مارك" أن يرسم لوحة مزورة طبق الأصل للفنان الأمريكي Maynard Dixon ، ويتبرع بها إلى متحف صغير ، لتكون أشبه بعمل خيري يخلد ذكرى والده المتوفى .
رسم مارك اللوحة بعناية استثنائية كي لا يُكتشف أمره ، وقدمها للمتحف ، وادعى أن والده كان مهووساً بجمع التحف واللوحات الأثرية ، وأنه سيتبرع بلوحة من مجموعته كتخليد لذكراه .
المتحف تفحص اللوحة ، ولم يستطع أن يكتشف أنها مزورة ، فهي تشبه الأصلية تماماً دون أدنى اختلاف ، فشكروه وعاملوه بكل لطف واحترام وتقدير ، وقد قال مارك عن هذه التجربة : "عاملني الجميع مثل الملوك ، ولم يكن هذا شيئًا اعتدت عليه" .
قرر مارك أن يُزَوِّر العديد من اللوحات المفقودة أو التي رسم مبدعيها أكثر من نسخة ، وأرسل إلى العديد من المتاحف الصغيرة رسالة مفادها أنه رجل ثري مهتم باللوحات يعاني من مرض القلب ولم يبقى من عمره الكثير ، ويريد أن يتبرع بمجموعته كعمل خيري يخلد ذكراه وذكرى والده .
جميع المتاحف رَحَّبت بمارك وكَرمه وحبه الشديد لوالده ، واستقبلوا لوحاته - التي فحصوها جيداً ولم يكتشفوا أنها مزورة - بكل حب واحترام .
واستمر مارك على هذا المنوال ثلاثين عاماً ... حتى تبين لأحد مسؤولي المعارض أن مارك تبرع بلوحة إلى متحفين مختلفين ، والتي لا يوجد منها إلا نسخة واحدة أصلاً !! .
ومن هنا بدأ بتتبع أثره وتبين له أن مارك خدع عشرات المتاحف البسيطة بلوحات لم يطلب أي مقابل مادي لها ، كل ما كان يريده هو تخليد ذكرى والده ، وأن يرى الناس يستمتعون باللوحات .
في مطلع الألفية الثانية كان اسم مارك قد انتشر بين المتاحف على أنه مزور نبيل ، وكانوا يرفضون أي تبرع منه ، وكانت أمه قد توفيت حينها ويريد تخليد ذكراها أيضاً ، فتنكر حينها بزي راهب وغَيَّرَ اسمه ، وكان يجول المتاحف ويدعي أن أمه كانت مليونيرة تجمع اللوحات بينما هو راهب لا حاجة له باللوحات .
استقبلت المتاحف لوحاته ولم يستطيعوا كشف زيفها ، وكل ما كان يطلبه بالمقابل أن يكتب المتحف اسم والديه على اللوحات كتخليد لهما .
كان مارك يدخل المتاحف متنكراً ويرى كيف يُسعد الناس بمشاهدة لوحاته ، ومدى المتعة التي يعيشوها بعد تأملهم بلوحات يُفترض أنها أثرية وفريدة لأروع الفنانين .
بعد أكثر من ثلاثين عام من العمل الخيري المزيف قبضت الشرطة على "مارك" وطالبوا بسجنه ، إلا أن القاضي حكم ببراءته فهو لم يستغل الناس ولم يضر أحداً ولم يطلب أي أموال على لوحات تقدر أسعار الأصلية منها بملايين الدولارات ... كل ما كان ينشده هو العمل الخيري وتخليد والديه . ( خو يا مارك حط لهم برادة ماي وفكنا ... عجبتك جرجرة المحاكم ؟! 😜)
بعد أن عرفت المتاحف بتدليس مارك لم يعد للوحاته أي قيمة ، وما كانت بالأمس تبهر الناس وتمتعهم أمست اليوم منبوذة ... يُنظر إليها على أنها مجرد ألوان على لوح خشبي تحكي كذب صاحبها .
هذه قصة أشهر مزور في التاريخ - صاحبة صورة المقال - مارك لاندس Mark Landis.
واسمح لي سيدي القارئ أن أسألك هنا ... لماذا لم تعد لوحات مارك تسعد الناس في المتحف ؟ إنها طبق الأصل عن لوحات رسمها أعظم الفنانين ... تسحر العين بفكرتها وجمالها وتناسق ألوانها ، ما الذي تغير ؟!!!
فَـكِّـر ملياً ...
أعتقد أن الجواب هو المصدر .
نحن البشر لا نستمتع بالأشياء وفقاً لخصائها وتفاعل حواسنا معها فقط ، بل إن مصدرها ومعتقداتنا وأفكارنا وقناعاتنا تؤثر تماماً على مدى استمتاعنا وانبهارنا بها .
لذا فإن اللوحات التي مصدرها فنانون عظماء مثل مايكل أنجلو ممتعه ومبهره ، بينما لوحات مارك مستفزة .
وهذا لا ينطبق على الأشياء الراقية فقط كاللوحات بل حتى أبسط الأشياء كالطعام مثلاً ، فالمسلم الملتزم لن يستمتع بقطعة ستيك لحم مصدرها الخنزير ، على عكس المسيحي في عيد الشكر مثلاً ... المصدر يجعل الآخر سعيد مستمتع والأول يكاد أن يتقيأ .
قام الدكتور توم روبنسون Tom Robinson بدراسة على 63 طفل ، تُوضح كيف أن المصدر مؤثر على استمتاعنا وذوقنا حتى بالأطعمة .
في الدراسة أعطى السيد توم لكل طفل عينتين متطابقتين تماماً من الطعام ، تحتوي كل عينة على بطاط وهامبرغر وقطع الدجاج وحليب وجزر مشتراة من السوبر ماركت ، لكن العينة الأولى مغلفة بأكياس مطعم ماكدونالدز والأخرى بكيس لا يحتوي أي علامة تجارية .
ثم سأل الأطفال هل الأطعمة متشابهة في مذاقها أم مختلفة ؟
غالبية الأطفال فضلوا الأطعمة المغلفة بأكياس ماكدونالدز رغم إنها متشابهة أصلاً !!! بل حتى الجزر الذي غُلِّف بأكياس ماكدونالدز كان ألذ !!! .
وفي تجربة ظريفة أخرى أتى العلماء بمعهد كاليفورنيا للدراسات بمجموعة من طلبة الدراسات العليا الذين يحبون شرب النبيذ الأحمر ، وأعطوهم نوعين من النبيذ ، الأول سعر الزجاجة منه 5$ ، والآخر سعر الزجاجة منه 45$ ، ثم طلبوا منهم تحديد أيهما أروع طعماً ، وكانت أدمغتهم متصلة بجهاز MRI لمعرفة ما يدور فيها .
الطلبة بأجمعهم اتفقوا على أن النبيذ الأغلى كان طعمه ألذ ، وكانت مناطق المتعة في الدماغ تزداد نشاطاً وتوجهاً عند شرب النبيذ الأغلى مقارنة بالنوع الآخر .
والمضحك في الأمر أن كِلا النبيذين في الحقيقة كانا من نفس الزجاجة ... ولكن اعتقادهم باختلاف المصدر زاد تمتعهم .
الأمر ينطبق على الحب أيضاً سيدي القارئ ... فمن سيختاره قلبك ستراه أجمل وأكثر جاذبية مما هو عليه بالواقع . ( يعني عادي ترى يطلع سحت بس أنت ماخذ فيه مقلب ... أنا ياي أهدي النفوس أنت عارفني 😜)
وكما يقول الشاعر المغرم :
قَلِيلٌ مِنْكَ يَكْفِيني ولَكِنْ *** قَلِيلُكَ لاَ يُقَالُ له قَلِيلُ
وإليك هذه القصة الغريبة ...
هناك اضطراب عصبي يُسمى "متلازمة كابجراس" يصيب الإنسان فيتوهم أن هناك كائنات فضائية أو ملائكة أو شياطين أو محتالاً استبدل صديقه أو شريك حياته أو شخصاً من عائلته أو حتى حيوانه الأليف ووضع شخصاً آخراً في مكانه .
عادة ما تكون نتائج هذا الاضطراب كارثية ، إذ يقدم المصابون به على قتل أعز الناس حولهم ظناً منهم بأنهم أشخاص آخرون ... صحيح أن لهم نفس الصوت والهيئة .. إلا أن المصدر مختلف .
لكن في عام 1931 م كان هناك امرأة تشتكي من زوجها على أنه غير مثير جنسياً وغير ملائم لها فكرياً ، وكانت تفكر ملياً بالطلاق ، إلا أنها بعد ذلك أُصيبت بمتلازمة كابجراس وتوهمت أن هناك من قام باستبداله ، لكنها كانت مستمتعة بالبديل وتراه أكثر جاذبية وملائم لها وأحبته جداً ... لقد أنساها حب زوجها ، رغم إنه ذات الشخص . ( لو ضاربه حشيش وحياتك مو جذي 😜)
سيدي القارئ هل تمتلك هدية أو ذكرى من شخص توفاه الأجل ؟
لو استبدلناها منك وأهديناك أخرى جديدة .... هل ستكون مشاعرك متشابهة اتجاهها ؟ غالباً لا .. لأن المصدر يعني لك الكثير .
نعم الأشياء ممتعة حسب المصدر ... وكذلك الألم ، قد يكون ممتعاً حسب المصدر .
ذلك الألم الذي تشعر به من حرقة البهارات التي وضعتها على الطعام ممتع جداً أ ليس كذلك ؟ خوفك من أفلام الرعب التي تحب مشاهدتها ممتع أيضاً صحيح ؟
والألم قد يكون مؤلماً أكثر لو كان من شخص قريب منك تتوقع منه المودة .
في دراسة لدكتور علم النفس الاجتماعي السيد دان ويغنر Daniel Wegner قام بإيصال مجموعة من طلبة جامعة هارفرد بصاعق كهربائي ، وأخبرهم أن هناك خمس مستويات من الصعق سوف يتلقونها من رجل موجود في الغرفة المجاورة والذي يمتلك زر الصاعق .
أخبر نصف الطلبة أن الشخص الموجود في الغرفة المجاورة لا يملك أي ضغينة اتجاههم ، والموضوع ليس شخصياً نهائياً هو فقط يقوم بعمله من أجل البحث العلمي .
وكانت الصعقة الأولى لهؤلاء الطلبة مؤلمة .. لكن الثانية أخف والثالثة أخف فأخف حتى الخامسة ، لأنهم في كل مرة يعتادون على الألم أكثر .
ولكن السيد دان أخبر النصف الآخر من الطلبة أن الشخص الذي في الغرفة المجاورة يعرفهم جيداً ، وسيقوم بصعقهم رغم ذلك عن عمد .
كانت الصعقة الأولى مؤلمة جداً والثانية بنفس الحدة ، لكن الثالثة والرابعة والخامسة أكثر إيلاماً .
في كِلا الحالتين كانت الصعقات متساوية ... لكن نصف الطلبة شعروا أنها أكثر حدة عندما اعتقدوا أن هناك من يتعمد أذيتهم .
هل رأيت سيدي القارئ كيف تخدعنا أدمغتنا ؟
نشعر بمتعة مضاعفة لأشياء متشابهة ونتألم أكثر ... فقط لاختلاف المصدر .
ولعلك تتساءل الآن " أوكي يعني اشتبي ؟ لا تقتل المتعة يا مسلم 😒"
اشدعوه يباااااا ما نزيد معلوماتك يعني 😜
ما أريد قوله من خلال هذا المقال سيدي القارئ هو أن أفكارنا ومعتقداتنا ونظرتنا للأمور مسؤولة جداً عن مشاعرنا ، ولو غيرنا شيئاً من طريقة تفكيرنا حول مصدر الأشياء ستتغير مشاعرنا ... وهذا ما قد يعود علينا بالمزيد من السعادة أو الراحة النفسية أو السلام الداخلي ... وحتماً سيقلل من مشاعرنا السلبية .
عندما تعتقد أن أقرباءك يقومون بالأشياء اللطيفة اتجاهك بدافع الحب ستُسعد أكثر بها ، بينما لو كنت تعتقد -يا محور الكون- أنهم يفعلون ذلك لغاية تخلو من المودة ... وأنهم يريدون بذلك التفضل عليك كي تشعر بالمنة مثلاً ، فإنك حينها ستُستفز منهم وتستاء ... وستستثقل تصرفاتهم .
لذلك لو أحسنت ظنك بمصادر أفعال الآخرين ستزداد سعادة ... وعلى هذا قِس ما سواه .
تَذكَّر دائماً أن أفكارك ونظرتك للأمور هي المسبب الأول لمشاعرك ، وتغيير أفكارك حول مصادر الأشياء سيُغير مشاعرك ... عندما تضع الأعذار للدافع الذي صدرت منه أخطاء الآخرين ستشعر بالمزيد من الراحة ... وعندما تحسن ظنك بلُطفهم ستزداد سعادة .
ولو تأملت بفكرة ارتباط المصدر بالسعادة لن يخدعوك ... فستيك اللحم الذي ستأكله بالمطاعم العادية متشابه تماماً مع ذاك الذي يطبخه الشيف نصرت مثلاً ... الفرق بينهم أنهم خدعوك بالسعر لا أكثر .
ولو كنت في المتحف لاستمتعت بلوحات مارك ... إنه أروع مزور على الأطلاق .
واترك الآن البقية لعقلك ... وكيفية استفادته من معرفة ذلك .

كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.

كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.

ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.