حوار ميلوس ... وهم الأمل

بين عام 431 إلى عام 404 قبل الميلاد نشبت حرب طاحنة بين "أثينا" وحلفائها من جهة وبين "أسبرطة" وحلفائها من جهة أخرى .
وقد دَوَّن المؤرخ ثوقيديدس Thucydides أحداث الحرب وحواراتها في كتابه (تاريخ الحرب البيلوبونسية) ، وهو كتاب رائع ودقيق يُدرس اليوم في كليات العلوم السياسية وفصول العلاقات الدولية .
ولعل أبرز فصل دَوَّنه ثوقيديدس هو الحوار الذي دار بين قادة جيش أثينا وشيوخ جزيرة "ميلوس" ، وهي جزيرة صغيرة في بحر اليونان ، كانت محايدة لم تشترك في الحرب رغم أن سكانها ينحدرون من نسل الأسبرطيين .
وسأسرد لك سيدي القارئ هذه التحفة الكلامية ... وأتمنى منك متفضلاً أن تتأمل الحجج المنطقية التي فيها ، وتتصور أنك من شيوخ جزيرة ميلوس . ( أناديك هيركوليس مو سيدي القارئ 😛 )
الأثينيون : نحن لن نُرهق أسماعكم بخطاب طويل نزعم فيه أننا نستحق امبراطوريتنا ، أو أننا محقون في الهجوم عليكم لأن استقلالكم خطر علينا ، وإن فعلنا فلن تصدقونا على أي حال ، وبالمقابل فإننا نرجو أن لا تُثقلوا أسماعنا بخطاب تبينون فيه أنكم لم تعادونا ولم تخطئوا في حقنا وتذكروننا فيه بأنكم لن تعينوا الأسبرطيين علينا رغم أنهم أنسابكم وأبناء عمومتكم .. فلا جدوى من ذلك ، وإنكم بلا شك تعلمون كما نعلم نحن أن العدل لا يجري إلا بين طرفين متساويين في القوة .. أما بين قوي وضعيف فالقوي يصنع ما يختار والضعيف يعاني ما هو مضطر إليه ومجبر عليه .. فيا أهل ميلوس إما الاستسلام والخضوع إلينا ، أو فإننا لن نبقي رجلاً على الجزيرة إلا قتلناه .
الميليون : كما تشاءون لن نكلمكم عن الحق بل عن المنفعة .. إننا لا نرى نافعاً لنا ولا لكم أن تهدموا الضمانة المشتركة التي تحمينا وتحميكم وهي العدالة والالتجاء للحق في وجه الخطر .. فهو الضامن لنا ولكم ، وإن في ذلك مصلحة في مقبل الأيام ، فلا بُدَّ من يوم تكونون فيه أضعف من عداكم ، فحينئذ ستلجؤون للعدل يحميكم ، وإلا فإن سقوطكم وانتقام عداكم منكم سيدعكم عبرة لمن يعتبر من الأمم .
الأثينيون : إن نهاية امبراطوريتنا إذا قُدَّرَ لها أن تنتهي يوماً ما لا تُخيفنا ، فإن امبراطورة منافسة ومساوية لنا في القوة كأسبرطة إذا انتصرت علينا لن تعامل المهزومين بالقسوة التي يتعامل بها الأتباع الثائرون على سادتهم .. وإن ما ندعوكم إليه من الإذعان هو في مصلحتكم كما هو في مصلحتنا ، لأنكم تنجون بالتسليم لنا من القتل .
الميليون : فأنتم لا تقبلون منا أن نبقى على الحياد بينكم وبين أسبرطة وتبقى العلاقة بيننا ودية فلا تؤذونا ولا نؤذيكم ؟!
الأثينيون : كلا ... لأن عداوتكم لن تؤذينا بقدر ما تؤذينا صداقتكم ... إذ أن صداقتكم مع بقاء استقلالكم ستُظهرنا ضعفاء أمام أتباعنا والخاضعين لنا من أهل الجزر الأخرى وقد يثورون علينا .
الميليون : طلبتم ألا نكلمكم بالحق والظلم بل بالنفع والضرر ... ولكن الحجتين كثيراً ما يلتقيان .. أفلا ترون ضرراً عليكم في ظلمكم لنا .. إنكم تعتدون علينا ونحن محايدون .. لذا سيخاف كل محايد سوانا على نفسه فيعاديكم .. إنكم تكثرون أعداءكم بالهجوم علينا وتزيدون من الأخطار المحدقة بكم .
الأثينيون : أما أهل البر فلن يحاربونا لانشغالهم عنا بغيرنا .. أما أهل البحر من المحايدين فهم مملوئون منا رعباً وسيزيدهم ما سيجري عليكم ... أين هي الجزر الصغيرة المحايدة أو الخاضعة لنا والتي سيجن أهلها ويعادوننا لأننا حاربناكم ؟!!!!!
الميليون : فإن كنتم تقهرون الناس إلى هذا الحد .. فلماذا لا نقاتلكم كي لا نصبح منهم ولماذا لا ندافع عن حريتنا واستقلالنا ؟
الأثينيون : لأنكم أضعف ونحن أقوى .
الميليون : لكننا نعلم أن الأقدار ربما نصرت الضعيف على القوي .
الأثينيون : آآآآه الأمل ... ذلك الوهم الذي يجعل الخطر مريحاً .. ويقنع الناس بآجالهم .. إنما الأمل فضيلة في الأقوياء ورذيلة في الضعفاء .. ستُعرفكم الأقدار بأنفسها حين تصبح دياركم خراباً ، لا تكونوا كالجهال من العامة حين يخذلهم ما يرونه من هذا العالم المادي فيلجؤون إلى ما لا يرون من الغيب يرجون منه النصر .. كالنبوءات والرؤى وغيرها من الاختراعات والأوهام التي تؤخذ الناس حتوفهم والبلدان إلى دمارها .
الميليون : تأكدوا أننا نعلم الفرق بيننا في القوة .. لكننا لم نزل مؤمنين بأن الآلهة ربما نظرت إلينا بعين العطف والرأفة إذ لسنا إلا أناس يدفعون الظلم عن أنفسهم .. ثم إننا نتوقع سنداً من أسبرطة وحلفائها .. إن لم يكن لروابط الدم والأخوة بيننا فلمعاداتكم .. لذلك فأملنا هذا الذي تسخرون منه ليس جنوناً بالكامل .
الأثينيون : آمنوا بالآلهة ما شئتم .. أما الأسبرطيون فإنهم لن ينصروكم إلا إن وجدوا في نصركم منفعة لهم .. وأنتم أضعف من أن تنفعوهم .. وهم جيش بر ... وأنتم أهل جزيرة ونحن سادة البحر نحاصركم ونحول بينهم وبينكم .. فكيف تتأملون أن يجوزوا البحر إليكم ونحن فيه؟! وإن ظننتم أنهم سينصرونكم ويعرضون أنفسهم للأخطار في أعالي البحار للأخوة بينكم أو أنفاً من العار .. فإننا نبارك لكم سذاجتكم .
الميليون : بل سوف ينصروننا .. لكي يثق أتباعهم وحلفاؤهم في سائر بلاد اليونان بحمايتهم وسوف يهاجمونكم من البر وسوف يبعثون لنا غيرهم من حلفائهم من أهل البحر .
الأثينيون : إننا نتعجب منكم !!! .. لقد خضتم هذه المفاوضات لتنقذوا بلدكم من الخراب .. وإلى الآن لم تقولوا شيئاً ينقذكم .. أقوى حججكم اعتماد على الأمل وعلى المستقبل وعلى غيركم .. كم مرة قلتم سوف وسوف وسوف ... سيفعلون وسيفعلون وسيفعلون ... يا أهل ميلوس نحن هنا الآن !!! ونفعل ما نفعل الآن .. انظروا إلى أسطولنا في البحر هو أمامكم الآن .. فلا تأخذكم الحمية .. فالحمية غمامة على أعين الناس تعميهم عن الخطر وتقودهم إلى الهاوية .. فلا تأنفوا من التسليم لنا ونحن أعظم مدينة في اليونان .. إنما نخيركم بين الأمن والحرب .. فإياكم والعمى .. إننا سوف نغادر هذه المفاوضات وننتظر ردكم .
لقد اختار أهل ميلوس الحرب .. إلا أن أملهم كان وهماً ، فلم ينصرهم الأسبرطيون ، أما الأثينيون فقد قتلوا كل رجل في ميلوس واستعبدوا النساء والأطفال ، وأتوا بأناس من أثينا ليستوطنوا الجزيرة . ( كلو ضرب ضرب إيييييه هو مافيش شتيمه 😛 )
ما رأيك بحجج شيوخ ميلوس ... هل كان أملهم منطقياً أو أنه وهم يحاول أن يرتدي زي العقل ؟
إن الأمل يا سيدي هو ذاك الدافع الذي يجعلك تستيقظ كل يوم من فراشك لتخوض معترك الحياة ، شعورك بأن هناك شيء ما جيد قد تستطيع فعله وسيجني نفعاً ... إنه المحرك الذي يجعلك تقوم بالكثير من الأعمال في حياتك .
لكنَّ الأمل فكرة وليس رجاء ، إنه شيء يجب أن يُبنى على المنطق لا أمنيات ، وهذا ما لا يدركه البعض فيصبح أمله وهماً ساماً منفصلاً عن الحقيقة يُفسد حياته عوضاً عن إصلاحها .
ولا تظنن أننا - وبكل سهولة - نستطيع التفريق بين الأمل والوهم ، فالتائه في الصحراء لن يُفرق بين الواحة والسراب وسيُلاحق كُلاً منهما ، تماماً كما حدث مع أهل ميلوس ، فعندما حاصرهم الأثينيون ولم يبقى أمامهم سوى ذل الاستسلام ... لم يفرقوا حينها بين الوهم والأمل .
صحيح أن الأثينيين كانوا متعجرفين مختالين بقدرتهم إلا إنهم كانوا واقعيين ... على عكس أهل ميلوس الذين اعتمدوا على غيرهم في أملهم ... فقُتلوا .
لأنه يا سيدي أحياناً يكون من الصعب مواجهة الواقع إذ أنه مرير لا يسهل تجرعه ، فنختار وهم الأمل لأنه أخف وطأة على أنفسنا ، أو لأنه محبب إلينا أكثر من الواقع .... لكنه يبقى وهماً لا يسمن ولا يغني من الجوع .
عندما تفتح مشروعاً تجارياً دون دراسة جدوى ، ويبدأ بالانهيار وتكبد الخسائر ، قد يُحدثك الأمل أنك الأمور ستصبح أجمل في المستقبل وأنك ستعوض تلك الخسائر ... لكن الأمنية شيء والحياة شيء آخر .
مهما لمع في عينيك الربح والأموال التي ستجنيها لا بُـدَّ أن تترك وهم الأمل خلف ظهرك وتعترف بالفشل وتغلق المشروع ، فعدم اتباعك المنطق في إنشاء المشروع (دراسة الجدوى) لن ينقذه وهم الأمل عند تكبد الخسائر .
فالأمل الحقيقي هو أن تدرس السوق وتنجح في الإنتاج والتسويق ثم تنتظر متأملاً الأرباح .
إن جُلَّ آلامنا التي تتخلخل حياتنا خلفها وهم الأمل ... في علاقاتنا الاجتماعية ، فالأزواج مثلاً قد تفشل حياتهم الأسرية ، إلا أنهم لا يختارون الطلاق حلاً ، بل يتعلقون في اكمال الحياة رغم كل ما فيها من سُمِّية على أمل أن الأمور ستتحسن يوماً ما ، فالاعتراف بالفشل والتقصير وسوء الفِعال أمر يتطلب شجاعة وطاقة نفسية ... لذا يختار الدماغ التعلل بالحجية الواهية ويستلطف بها عوضاً عن ذلك ... وعلى هذا قِس ما سواه من خيبات .
أحياناً يحول الوهم بينك وبين اتخاذك لخطوات حقيقية نحو الإنجاز ، فعندما يظن دماغك أنه من السهل القيام بهذا سيُؤخره لأجل غير مسمى وستقضي الأيام حالماً كأنك حققته وحصدت نتائجه .
وإليك هذه التجربة من كتاب اختبار المارشملو "The Marshmallow test" .
أتى علماء الأعصاب بمجموعتين من المتطوعين ، الأولى لديهم أهداف يظنون أنهم قادرين على تحقيقها لكن يؤجلون ذلك ، أو ليس لديهم أهداف أصلاً لكن يعتقدون أن حياتهم ستكون أجمل في قادم الأيام .
المجموعة الثانية لديهم أهداف ويسعون فعلياً لتحقيقها ولو بخطوات بسيطة .
طلب العلماء من كِلا المجموعتين أن يفكروا في أنفسهم الآن ، وفي أنفسهم في المستقبل ، ويفكروا أيضاً في شخص آخر مقرب إليهم ، وكانوا يراقبون أدمغتهم من خلال أشعة FMRI ليسجلوا حركة الدماغ وشكله .
المجموعة الأولى كان شكل أدمغتهم يختلف عند التفكير بحاضرهم عن شكله عند تفكيرهم بمستقبلهم ، لكن شكل تفكيرهم بالمستقبل يتشابه كلياً عند تفكيرهم بالشخص الآخر القريب منهم .
أما المجموعة الثانية كان شكل الدماغ عند التفكير في الحاضر يتشابه مع شكله عند التفكير في المستقبل ، ولكنه يختلف جذرياً عن شكله عند التفكير في الشخص الآخر .
وهذا يعني أن الأشخاص المتأملين وهماً والذين يخلو واقعهم من خطة واضحة لتحقيق الهدف يفصلون بين أنفسهم الآن وأنفسهم في المستقبل ، وكأن مستقبلهم شخص آخر لا يرتبط بما هم عليه الآن ... وهذا غير منطقي البتة ، فوهم الأمل يدعونا لتخيل الحياة وجمالها لو تحقق الهدف ... لكنه لن يدفعنا لأي شيء ملموس ولا لخطوات على ميدان الواقع .
بينما الذين بنو آمالهم المستقبلية على خطوات ملموسة اليوم يرون أنفسهم في المستقبل كجزء من أنفسهم اليوم ، وليس هناك ما لا يخضع للمنطق والتخطيط ... وهذا هو الأمل الحقيقي الذي يجب أن يدفعنا للتحرك.
لذا سيدي القارئ ... راقب دماغك .. قد يخدعك ويخلط لك الأمل بالوهم ، فإن دعاك أملك للتحرك بمنطقية وعقل نحو ما تريد ، فهذا أمل جدير بالاستناد عليه ، أما إن كان الأمل يزين لك الحياة مستقبلاً ويعِدُك بالنجاح دون أن يُقدم لك حجة منطقية أو خطوة ملموسة على أرض الواقع ... فهذا مجرد وهم سيُردي بك .. تماماً كما فعل بأهل ميلوس .
لا يوجد شيء اسمه "المستقبل" ... ففي كل ثانية تمر علينا نقتطع جزءاً من المستقبل ونجعله ماضياً ، هناك شيء اسمه الآن ... افعله الآن ... فكر به الآن ... واجه نفسك الآن ... خذ بيدها الآن نحو القرار الصائب ... فوهم الأمل يقول لك هناك مستقبل استرح الآن .
إن الحياة قاسية نصرت المتعجرفين من أهل أثينا على المظلومين من أهل ميلوس ... فلا تتأمل عدلها فهو وهم أيضاً .
لو كنت من أهل ميلوس لسلمت في بادئ الأمر لجيش أثينا ... ثم نظمت صفوفي وحلفائي لاسترداد استقلالي . (قديم بالحروب يا عزيزي 😛)

كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.

كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.

ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.