ليست مجرد حكايات ... إنها عقل

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 09 Feb, 2024
إلى أي مدى تظن أن معتقداتك وآراءك الفكرية والدينية والحياتية صحيحة؟ في الحرب العالمية الثانية احتلت اليابان جزيرة "كيسكا" الواقعة بين اليابان وألاسكا في شمال المحيط الهادي، وكانت ذات مكانة إستراتيجية لأمريكا، فاستنفر الأمريكان، واستعد أربعة وثلاثون ألف جندي أمريكي وكندي عام 1943 لاستعادة الجزيرة، رغم أنهم كانوا في مرحلة التعافي بسبب الخسائر والإصابات الفادحة التي لحقت بهم بسبب محاولتهم استعادة جزيرة "أتو" القريبة من هذه الجزيرة، لأن اليابانيين في الجزيرة استقتلوا وصمدوا وأوقعوا هزيمة نكراء فيهم، لذا كان قادة الجيش الأمريكي متأكدين كلياً أن المعركة ستكون حامية الوطيس، وشرسة إلى أبعد حد. عندما رست سفنهم الحربية على ضفاف الجزيرة وجدوها غارقة في ضباب صقيعي كثيف جداً يحجب الرؤية في جو من البرودة الشديدة، فتقدمت القوات الأمريكية والكندية بخطوات حذرة كرجل أعمى يطأ مكاناً للمرة الأولى، محاولين في ذات الوقت تفادي الألغام والأشراك التي نصبوها اليابانيين، وفجأة انهمرت عليهم الأعيرة النارية من كل حدب وصوب، ورغم ما يصاحب الطلقات من نار ونور إلا إنها لم تظهر لهم الأعداء من شدة الضباب، فدافعوا وردوا على الطلقات بطلقات وأكملوا مسيرهم رغم تلك الموجة العنيفة من النيران، واختبأوا خلف هضبة صغيرة في وسط الجزيرة. وبعد 24 ساعة وعندما انقشع الضباب وأسفر الصبح أتيح للأمريكان والكنديين عد خسائرهم، فكانت 78 ما بين قتيل وجريح، ويا للسخرية!! لقد اكتشفوا أن الجزيرة الصغيرة كانت خاوية بالكامل، ومنذ وصولهم كانوا وحدهم على تلك الجزيرة، وأن الأمريكان والكنديون كانوا يطلقون النار بعضهم على بعض بكل غباء. ولعلك تظن أن هذا الخطأ وارد جداً نظراً لوجود الضباب..... حسناً لم تحسن التخمين. كان فريق المراقبة والاستطلاع الجوي الأمريكي قد أخبر القادة الأمريكيين بالفعل قبل ثلاثة أسابيع من وصولهم إلى الجزيرة أنهم لا يُلاحظون أي نشاط ياباني فيها وأنهم يرجحون بأن اليابانيين قد غادروا الجزيرة بالفعل. لم يلتفت القادة لتقارير فريق الاستطلاع، بل قُبيل وصولهم للجزيرة بأيام رفضوا عرضاً من فريق الاستطلاع للقيام بجولة جديدة لرصد الجزيرة واليابانيين، لأنهم كانوا متأكدين تماماً من أن الزعماء اليابانيين الذين استقتلوا في "أتو" لن يتركوا هذه الجزيرة هكذا دون معركة تـتـناثر فيها الأشلاء. ونظراً لتمسكهم بآرائهم واعتقادهم بصحتها مات الكثيرون هباءً منثوراً..... هذا ليس تصرفاً فريداً من نوعه في تاريخ البشرية، بل إن أدمغتنا مفطورة على الميل للاعتقاد بصحة أفكارها والانحياز لها، وتفضيل المعلومات والأدلة التي تؤكد معتقداتنا أو قيمنا وآرائنا التي نؤمن بها حالياً، وازدراء كل الأدلة المناقضة والتقليل من قدرها، بل حتى ذاكرتنا تُقرب إلى أذهاننا ما يخدم رأينا ويدعمه مبعدةً عنا ما يخالفه. يُسمي علماء النفس هذا الميل بـ "الانحياز التأكيدي Confirmation bias"، وقد أقيمت عليه مئات الدراسات منذ عام 1977 وإلى يومنا هذا لفهمه ومعرفة ماذا يدور في أدمغتنا، ومحاولة تحذير الناس من الوقوع في شِراكه، وهبني دقائقاً من وقتك أوضح لك بعض تلك الدراسات. أجرى الدكتور كارليس لورد Charles Lord تجربة شيقة، إذ أحضر مجموعة مؤيدة بشدة لحكم الإعدام، وأخرى مناهضة له بقوة، ثم عرض على كل مجموعة الأدلة التي تخالف آراءهم، فلم يغير ذلك من معتقدهم، وشككوا في الأدلة، بل وزادتهم إصراراً وتمسكاً برأيهم. ثم أتى بمجموعتين جديدتين، وعرض عليهم أيضاً الأدلة التي تخالف معتقداتهم، بَـيـدَ أنَّـه شرح لهم الانحياز التأكيدي وطلب منهم وضع ذلك في الحسبان والتفكير بمنطقية وإنصاف دون تحيز، لكن ذلك لم يجدي نفعاً، وانحازوا لآرائهم، واستخفوا بالأدلة وضربوا بها عرض الحائط.... أي حتى معرفتنا بالانحياز التأكيدي لن تُـنجينا من الوقوع فيه. بل في دراسة أخرى تم شرح هذا الانحياز لما يدنو من 150 شخص، ثم سألوهم هل تعتقدون أنكم تقعون فيه، ولك أن تتخيل أن شخصاً واحد فقط من أولئك الـ 150 رجح أن يكون واقعاً فيه، بينما البقية كانوا واثقين من أن آراءهم مبنية على أدلة رزينة دون تعصب.... وهذه ترهات. كلنا نقع فيه... إن ذاكرتنا مصممة لمثل هذا الانحياز. قام بروفيسور علم النفس السيد مارك سنايدر Mark Snyder بدعوة عدد من الأشخاص إلى مختبره، وعرض عليهم سرداً شاملاً لأحداث وقعت في أسبوعٍ واحد من حياة امرأة تُدعى Jane، تحتوي على أنشطة انطوائية وأخرى منفتحة على المجتمع. وبعد يومين دعاهم مرة أخرى إلى مختبره، وطلب منهم اختيار وظيفة مناسبة لها وفقاً لما رأوه من حياتها، وخَـيَّـرهم بين وظيفة أمينة مكتبة -أي مهنة انطوائية نوعاً ما- وبين وظيفة بائعة عقارات -أي عمل يتطلب الاحتكاك بالمجتمع-. المجموعة التي اختارت (أمينة مكتبة) كانت تستدل بالأنشطة الانطوائية التي قامت بها ونسيت أعمالها الأخرى دون إدراك منها بذلك، كذلك المجموعة التي اختارت (بائعة عقارات) غفلت عن أعمالها الانطوائية وتذكرت المنفتحة فقط، أي في كِلا المجموعتين كانت الذاكرة تسعف الدماغ بالذكريات التي تثبت صحة رأيها دون الالتفات إلى ما يناقضها. لم يكن بين المشاركين من يقول إن المرأة تصلح لكِلا الوظيفتين أو يُطالب بالمزيد من التفاصيل ليتأخذ رأياً حاسماً، فأدمغتنا عادة ما تنحاز إلى رأيٍ ثم تحاول إثباته من خلال الأدلة المشابهة لرأيها والمتاحة أمامها، دون إرهاق نفسها بالتمحيص والتدقيق، فهذا يتطلب مجهوداً دماغياً كبيراً وأدمغتنا أكسل من أن تقوم بهذا لكل فكرة ستؤمن بها. والأمر يصبح أسوأ وأسوأ لو كانت هذه الفكرة التي نؤمن بها لها جانب عاطفي، كالولاء أو المحبة وما إلى ذلك من مشاعر مفعمة. في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2004 بين بوش الابن وجون كيري، أجرى علماء النفس تجربة حول الانحياز التأكيدي، إذ أحضروا لكِلا طرفي التنافس في الانتخابات مجموعة من محبي ومؤيدي ذلك الطرف. يعرض القائمين على التجربة لمحبي جون كيري مقاطع من كلامه تكون سخيفة نوعاً ما، وكذلك أنصار جورج بوش يُشاهدون شيئاً من كلامه بذات المستوى من الحماقة. ثم يتم مراقبة أدمغة المتطوعين للتجربة من خلال الأشعة الوظيفية للدماغ FMRI ليروا ما يتفاعل في أدمغتهم، وأثناء ذلك يُناقش محلل سياسي كل متطوع على حدة، ويقوم بتفنيد آراء مرشحه السياسي ويوضح له سفاهتها. لاحظ القائمون على التجربة أن المناطق الدماغية التي نشطت عند ذلك الحوار هي المناطق المناطة بالعواطف، ثم بعد برهة تنشط أجزاء التفكير المنطقي للدفاع عن مرشحهم، وكثير من المتطوعين لم تكن تنشط لديهم مناطق التفكير بمقدار كبير، بل يعتمدون على المشاعر كلياً في الدفاع عن مرشحهم، وكلما زاد نشاط مناطق العاطفة زادت قوة دفاعهم عن مرشحهم. وهذا يعني أننا البشر ندافع عن آرائنا بشراسة لأن مشاعرنا مندفعة إليها بقوة، هذا إن لم تكن قناعاتنا مبنية على أسباب عاطفية لا منطقية أصلاً، بل حتى إن كنا مؤمنين بها عن قناعة وتفكير فإن مشاعرنا تقودنا -دون وعي منا- للتحفظ على تلك الأفكار والآراء وتأييدها كأنها جزء منا.... هكذا تعمل أدمغتنا. ووفقاً لدراسة قام بها الدكتور ديفيد سيلفرمان David Silverman عام 2011 فإن غالبية الناس تعزز معتقداتها وتميل إليها بقوة عندما يتم تحديها بأدلة متناقضة. ولعله يتبادر إلى ذهنك الآن سؤال "إذاً كيف الخلاص؟!" كيف السبيل للتخلص من انحيازنا التأكيدي وانحياز الآخرين؟ في دراسة الدكتور كارليس لورد آنفة الذكر -حول الاقتناع بالإعدام- حاول بأكثر من طريقة ابتكار استراتيجية تحول بيننا وبين الانحياز التأكيدي، وقد نجح بالفعل، إذ أتى بمجموعة متعصبة لرأيها، وطلب منهم التدقيق في الأدلة بعناية، ويسألوا أنفسهم ويفكروا عميقاً قبل رفض أو قبول أي دليل إذا ما كانوا سيصلون إلى نفس التقييمات الداعمة أو الرافضة لو أظهر الدليل نتيجة مختلفة عما يؤمنون به مسبقاً. فعلى سبيل المثال إذا قُـدِّم لهؤلاء المتعصبين دراسة تشير إلى أن عقوبة الإعدام خفضت من معدلات الجريمة، كان يُطلب منهم تحليل منهجية الدراسة، وتخيل أن النتائج أشارت إلى عكس ذلك الاستنتاج. وقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحاً يُعتد به، وغيرت آراء العديد من المشاركين في التجربة، وأزاحت عن خيالهم النقطة العمياء التي تحجب عنهم رؤية العالم على غير ما يفترضون، لكنَّ هذه الاستراتيجية مرهقة للتفكير وعلى الأرجح أننا لن نقوم بها لكل فكرة نؤمن بها... أدمغتنا كسولة، لكن حَري بنا استخدامها عند التدقيق في الأفكار التي سيترتب عليها مصير حياتنا أو جودتها. أما محاولة اقناع الآخرين بما تؤمن به دون أن يتحيزوا لآرائهم -إن كانت مخالفة لك- فتلك مهمة ثقيلة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، يقول الدكتور ديفيد سيلفرمان في دراسته أن نقاشاً واحداً من الأدلة الدامغة لا يُغير آراء الناس بل يُعززها، ولكن تدفق مستمر للتفنيد بالأدلة القاطعة يمكن أن يصحح المعلومات والمفاهيم الخاطئة. (يعني فيك وما حنيت... حن عليهم إلى وقت يقتنعون😜) وأيضاً بعض الدراسات التي حاولت تغيير رأي المنحازين لضرر التطعيم والمؤامرة المحاكة خلفه، استخدمت العاطفة كأسلوب للإقناع.... ونجحوا في ذلك، أي استمالة عواطف الناس واللعب على وتر المشاعر قد يُغير من آرائهم.... فالمشاعر لها قدرة هائلة على العبث في قراراتنا وآرائنا. والآن سيدي القارئ.... هل ما زلت تعتقد أن كل أفكارك ومعتقداتك صحيحة وأنك لم ترجح دليلاً على حساب دليل آخر عند إيمانك بها؟ أرجو أن يكون الجواب لا..... (تعال تعال ليش نعم.... شنو اسم الله عليك يوحى لك أنت؟! 😜)
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 02 Feb, 2024
نحن في ورطة حقيقية... قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟ قد لا أُقدم لك حلاً في هذا المقال، لكنني لن أسرق وقتك دون جدوى... سأشرح لك كيف تُدار الأمور في دماغك، وأنت من عليه أن يخترع الحل. هل سمعت بإمبراطورية "خوارزم" من قبل؟ غالباً لا.... والسبب لأنها مُحيت من الوجود. كانت من أهم إمبراطوريات العصور الوسطى أروعها بنياناً وأكثرها ثراءً وتقدماً في العلوم، ومركزاً للثقافة الإسلامية، تمتد من الهند جنوباً إلى أطراف روسيا والبحر الأسود، وإلى الخليج العربي غرباً، ضامة كل دول آسيا الوسطى. في عام 1217م تلقى إمبراطور خوارزم الشاه علاء الدين رسالة من جاره حاكم إمبراطورية المغول جنكيز خان مكتوب فيها "أنا سيد أرض مشرق الشمس، بينما تحكم أنت تلك الأراضي التي تغرب فيها الشمس، دعنا نبرم معاهدة من الصداقة والسلام". كان جنكيز خان قد وَحَّـد شمال الصين وكل الدويلات المحيطة بإمبراطوريته، مقاتل شرس لا يُستهان بقوته، خاض حروباً دموية لبناء إمبراطوريته، وقد كان عند كتابة هذه الرسالة قد بلغ الستين من العمر، وكبر على القتال ويريد قضاء آخر سنوات حياته في الراحة والاستجمام بعد ذلك العمر الطويل على صهوات الجياد، محاولاً تنمية تجارة إمبراطوريته وكسب مودة جيرانه. بعث جنكيز عدة مراسيل إلى علاء الدين، محملة بالهدايا، وقد أرسل ذات مرة كتلة ذهبية ضخمة جداً، ومعها رسالة مكتوب فيها: "لدي رغبة كبيرة في العيش في سلام معك، يجب أن أراك وجهاً لوجه يا بني". لم يستلطف علاء الدين رسائل جاره، وشعر وكأنه يستصغره بنعته بني وحاكم أرض المغرب، لذا كان علاء الدين كارهاً لشخص جنكيز غير آبه بالقيام بالتجارة معه رغم ما ستحققه من الانتعاش الاقتصادي والثروة لكِلا الطرفين، وهذا ما كان يفكر به جنكيز بكل منطقية. أرسل جنكيز مبعوثـه الشخصي، إلى خوارزم مع قافلة ضخمة جداً تضم 450 تاجراً مسلماً من اليغور و500 جمل يجرون عربات محملة بأروع البضائع والمعادن الثمينة. وصلت القافلة إلى إحدى مدن خوارزم، فاستبشر تجارها الذين سيتمكنون أخيراً من اقتحام السوق الصيني وتبادل التجارة مع المغول، إلا أن حاكم تلك المدينة أمر جيوشه بقتل كل من في القافلة، وسرق كل ما فيها، متحججاً أنه اشتبه بهم أنهم جواسيس. صدم خبر مقتلهم العالم فكيف تقتل جيوش مسلمة تجاراً مسلمين لم يرتكبون ذنباً!!! جنكيز رغم امتعاضه الشديد مما حصل قرر إعطاء علاء الدين فرصة ثانية، فأرسل ثلاثة مبعوثين، أحدهم مسلم واثنان من المغول، وطلبوا من علاء الدين أن يضع لدم المسلم حرمة وللتجارة احتراماً، فيُعاقب الجناة ويرجع السلع إلى أصحابها، ويدفع دية قتل المسلم للمسلم، كي يحل السلام. هل اتخذ علاء الدين قراراً منطقياً لحقن الدماء وإنماء التجارة؟ كلا... غالبته مشاعر الغرور والخيلاء فقتل المبعوث المسلم، وحرق لحية المغوليين وأعادهما إلى جنكيز خان مذللين مشوهين. فما كان من جنكيز إلا أن أرسل رسالة أخيرة إلى علاء الدين مكتوب فيها: "استعد للحرب أنا قادم". ولعلك تعرف الآن بقية التاريخ.... لقد أعمى الحقد قلب جنكيز ومحى تلك الإمبراطورية من الوجود، فأباد أي مدينة تقف في وجهه ولا تريد الاستسلام، حارقاً بيوتها قاتلاً كل من يتنفس فيها حتى الكلاب والقطط، لكنه ترك المساجد دون أي يلمسها احتراماً لدماء اليغور الذين قُتلوا في بادئ الأمر، والذين قاتلوا في صفوف جيشه أيضاً. مات جنكيز خان... لكن أكمل أبناؤه وأحفاده سلسلة القتل وتخريب البلدان وعاثوا في صفحات التاريخ فساداً وصبغوها بالدماء، إلى أن ضعفت إمبراطوريتهم وتلاشت. لماذا كل هذا؟ لأن هناك أحمق يُدعى علاء الدين عوضاً أن يتبع عقله والمنطق السليم في معاهدة الصداقة والتجارة راح يتبع مشاعره وغروره، والذي خَلف في قلب جنكيز مشاعر مقيتة أخرى أعمته عن أي صوت للعقل وأصبح وحشاً لا يمكن احتواءه. وأنت سيدي القارئ... هل تتبع قلبك أم عقلك في غالبية قراراتك؟ في الحقيقة -ومن ناحية علمية- القرارات العاطفية تُدار في الدماغ في الفص الجبهي لا القلب، بينما القرارات العقلانية في اللوزة الدماغية وبقية مناطق صنع القرار في الدماغ، ولا يوجد في الدماغ زِرَين (عاطفة – منطق) يمكن لنا ضغط أحدهما عندما نفكر في اتخاذ القرار... الدماغ لا يجري وفق هذه الطريقة. غالبية البشر عندما يكونون في منطقة الهدوء وبعيداً عن الأزمات والهيجان العاطفي تكون قراراتهم مَـيّـالةً للمنطق تجري وفق المبادئ العليا والأخلاقيات، وما إن يتعرضون لاستثارة عاطفية حتى يتبدل الأمر غير الذي كان، وينجرفون نحو القرارات العاطفية إلا من رحم ربي وقاوم مشاعره واتبع المنطق. في دراسة أجراها عالم الاقتصاد السلوكي الرائع دان آريلي Dan Ariely أحضر لمختبره مجموعة من الطلاب الأذكياء المميزين في الجامعة، فيوضع الطالب في غرفة لوحده ثم يتم سؤاله بعض الأسئلة -من خلال شاشة كمبيوتر- حول القرارات التي سيتخذها عندما تُعرض عليه إمكانية الدخول في علاقة عاطفية قد لا تحتوي على مقدار من الأمان، بل لربما تسبب له مشاكل اجتماعية أو حتى صحية كبعض الأمراض. جميع الطلبة أجابوا بمنطق ورجحوا عدم خوضهم في تلك العلاقات إلى حد ما. بعد أسبوع يُؤتى بذات الطلبة إلى المختبر مرة أخرى، ويُسأل بذات الكيفية أسئلة تشبه إلى حد كبير أسئلة المرة الأولى، ولكن هذه المرة قبل الأسئلة يتم إثارته عاطفياً وتهييج شعور الشهوة لديه من خلال بعض المحتويات التي تُعرض له في الغرفة. في خضم النشوة تغيرت أجوبة الطلبة بشكل مدهش، أصبح لديهم رغبة في الانخراط في مجموعة من الأنشطة المنحرفة وخوض تلك العلاقات، وتبدلت أجوبتهم بمقدار 72% نحو الأسوأ. لم يعودوا أولئك المنطقيون... لقد طاشت أدمغتهم بفعل تلك المشاعر المتهيجة، وهذا هو حال غالبية البشر، وسواء كانت المشاعر نبيلة أو مبتذلة حتماً ستُـغير من قراراتنا بشكل لا يُصدق، فحين نظن أننا سنختار العقل والمنطق دوماً ستأتي لحظات ونضعف أمام عاطفتنا فنختار ما تُمليه علينا، أول لعل عاطفتنا تُؤثر على قراراتنا المنطقية دون أن نشعر. وإليك هذه الدراسة التي قمت بها في الكويت عند مساعدتي لأحد طلبة علم النفس في كتابة رسالته للماجستير. في أحد المجمعات التجارية استوقفنا 50 شخصاً توالياً للمشاركة في الدراسة، في بادئ الأمور نقوم بسؤالهم خمس أسئلة حول المنتج الوطني، ويمكنهم الجواب من 1 إلى 10، هل هم راضون عن جودة تلك المنتجات وسعرها، وهل سيقررون يومياً الاكتفاء بالمنتج الوطني، وهم على استعداد لشرائها عوضاً عن المنتج الأجنبي لو فُرضت عليها المزيد من الضرائب وبالتالي يرتفع سعرها، بعد إجابتهم على تلك الأسئلة، نخوض معهم بعض الأحاديث الجانبية -أقل من خمسة دقائق- حول الغزو العراقي الغاشم وكيف قاومهم بعض أبناء هذا الوطن بكل شجاعة وقدموا الشهداء، وكيف أننا ككويتيون نعشق تراب هذا الوطن الذي يجمعنا.... وكنا نحاول بذلك إثارة روح الوطنية والأخوة فيهم. بعد ذلك نسألهم خمس أسئلة أخرى شبيهة إلى حد كبير بالأسئلة الأولى مع تغيير بعض مفرداتها وصيغة السؤال، وأظنك رجحت أن جوبتهم قد تغيرت فعلاً.... وأنت محق. قبل الحديث الجانبي كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 4.5، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 3.8، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 3.5. أما بعد الحوار الجانبي.... إليك هذه الصدمة، كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 7.6، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 8.2، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 6.1. كل هذا التغيير في ظرف خمس دقائق من الوطنية!!!!! حسناً.... إليك الصراحة، أنا شرير بعض الشيء، ولم أتوقف بالتجربة عند هذا الحد، لقد عدتها مرة أخرى مع 50 شخص آخرين، وسألتهم ذات الأسئلة ولكن هذه المرة كان حديثي الجانبي يدور حول خبث بعض التجار في الكويت وجشعهم والمبالغة بالأسعار، وكيف أفسد التجار السياسة ومجلس الأمة وكيف يختلسون الأموال ويستخدمون "الواسطة" للظفر بالمناقصات دون وجه حق... وكنت بذلك أريد إثارة الضغينة والشحناء وبعض العداوة. في الأسئلة الخمسة الأولى كانت متوسط الإجابة شبيه جداً بالمرة الأولى (4.5/ 3.9/ 3.4)، ولكن بعد هذا الحديث الجانبي وإعادة الأسئلة لك أن تتخيل الأجوبة..... كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 2.1، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 0.9، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 0.2. مضحك كيف تتلاعب بالإنسان مشاعره وكيف بحديث عاطفي جانبي ممكن أن تُـغير من قراراته وقناعاته دون وعي منه بذلك. وللأسف لم يفكر أحد من هؤلاء المئة شخص بعجلة الاقتصاد والتنمية وكيف أن تشجيع المنتج الوطني سينصب لاحقاً في مصلحة المشتري... وهذا ما يقوله علم الاقتصاد. ولنفرض الآن سيدي القارئ أنك قررت أن تكون كل قراراتك القادمة مبنية على العلم والمنطق وبعيدة كل البعد عن العواطف الجياشة والمشاعر المتأججة، هل حقاً ستلتزم بها؟ على الأرجح الجواب هو "لا" فأدمغتنا ليست بهذا المقدار من الانضباط. غالباً نحن البشر -وللأسف- عندما نقوم باتخاذ قرارات عاطفية نتمسك بها بشدة ونسعى جاهدين للحفاظ عليها والقيام بها وندافع عنها بشراسة، بينما لو اتخذنا قرارات عقلانية منطقية فإننا سنكون أقل التزاماً بها، ولا ندافع عنها بذات الشراسة التي تكون مع القرارات العاطفية، وقد لا نكملها على أحسن وجه، هذا إن أكملناها أصلاً. أقاما الدكتورين سام ماجليو – تالي رايش Sam Maglio – Taly Reich مجموعة من الدراسات والتجارب لملاحظة الناس بعد اتخاذهم للقرار، وفي إحدى التجارب طلبا من بعض المشاركين اختيار واحدة من ثلاث كاميرات رقمية بناءً على التحليل العقلاني لمجموعة من الخصائص التقنية والمميزات، وطُلب من البعض الآخر استخدام عواطفهم وشعورهم البديهي للاختيار دون إرهاق أدمغتهم بالتفكير. في اليوم التالي يقوما القائمَـين على التجربة بنقد اختيارات المشاركين واقناعهم بأنهم اتخذوا الاختيار الأسوأ، وكانت النتيجة أن من اتخذوا قرارات عاطفية شعروا بندم أقل ودافعوا عن اختيارهم بصلابة، على عكس العقلانيين شعروا بندم أكبر دون دفاع مستميت عن اختيارهم. في تجربة أخرى لهما طَـلبا من المشاركين حل الألغاز وفق العاطفة أو المنطق أيضاً، وكان الأشخاص الذين يحلوها وفق مشاعرهم ويخطؤون يحاولون مرة أخرى -أو أكثر- البحثَ عن الحل الصحيح، بينما من يحلوها وفق المنطق ثم يفشلون غالباً ما يتوقفون عند ذلك الحد. أي أن القرارات العاطفية هي التي نتحمس بشدة للقيام بها والدفاع عنها، على النقيض تماماً عندما يتعلق الأمر بالقرارات المنطقية. وهذه معضلة حقيقية... فإما قرارات عاطفية غير مستقرة ولا رزينة تتبدل مع تغير مشاعرنا، والتي -كما ترى- أنها قد تتقلب يومياً، نلتزم بها كلياً وندافع عنها، أو قرارات حكيمة وعقلية، ولكن لن نكون مخلصين جداً لها ولا مصرين عليها إلا بمقدار كبير من الانضباط النفسي وجهاد المشاعر، وهذا ليس بالأمر السهل. إن محاولة ضبط النفس والالتزام كلياً بالمنطق في قبال المشاعر يحتاج منا طاقة نفسية كبيرة وحكمة وأخلاقاً ومقداراً من الوعي، وهذا لا شك سيعود نفعه على حياتك بشكل رائع، ولكنه كفاحٌ ثقيلٌ على النفس في جُل الأوقات، في حين لا أسهل من الانجراف خلف تيار المشاعر والاستسلام كلياً للعواطف التي تقلب بنا حيث ما تشاء، ومن المرجح ألا تكون فعالة جداً لجودة حياة الإنسان بل العكس. وكثيراً ما يحلو لأدمغتنا خداعنا بأننا اليوم -ونظراً للظروف- سنتخذ قرارات عاطفية فلا طاقة نفسية تعيننا على الصراع مع الذات، على أن نتخذ القرارات المنطقية لاحقاً عندما تهدأ وتطيب الأيام، لكن الحياة -وكما ترى- للأسف لا توفر الكثير من الرفاهية والراحة ولن تجلب لنا هذه الأيام، فأي ظرف تتجاوزه سيأتي بعده آخر وهكذا دواليك.... إنها صعبة جداً وتستنزف منا الكثير من الصبر والطاقة النفسية، وستبقى كذلك على الدوام. لنعد إلى سؤالنا الأول.... "هل قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟" أظنك فهمت كيف تدار الأمور في دماغك، وعرفت كيف أن مشاعر تعبث بقراراتنا سواء شعرنا بذلك أم لا، فتفضل في اتخاذ الحل الأنسب لك.... وتيقن كلما زادت إرادتك في محاربة مشاعرك، كلما كانت حياتك أنجح. عن نفسي أقول كل أمانيي تتوق للقرارات العقلانية... لكن هل سأقوم بذلك دوماً، لا أظن فالإنسان أوهن من ألا تلهو به مشاعر، وأضعف من أن يقاومها كلياً... لا تبالغ في رزانتك ستبقى إنساناً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 22 Jan, 2024
في أواخر عام 2012م قرر الشاب الأمريكي Jason Sadler أن يبيع اسمه، بأن يُغير اسم أبيه لاسم أي شركة تريد شراءه، فأنزل إعلاناً في المزاد لأقرب مشتر آت. الإعلان كان غريباً جداً وجذب انتباه بعض الشركات، وبعد مزايدات وتنافس باع Jason اسمه على شركة Headsets والتي اشترته بمبلغ 45,000 دولار ليصبح اسمه الجديد رسمياً Jason HeadsetsDotCom. الشركة ليست حمقاء لصرف هذا المبلغ الطائل على رجل يريد بيع اسمه لأن أبوه طلق أمه وأراد التخلص من اسم أبيه انتقاماً، بل كان نجاحاً تسويقياً، فالجرائد ووسائل الإعلام وبرامج التواصل وغيرها تحدثت عن الموضوع، مما جعل اسم الشركة على ألسن الناس، وبالتالي تحسنت مبيعاتها عن السنة السابقة بمبلغ 250,000 دولار. أما Jason عندما سُئل في أحد المقابلات التلفازية عن هذه الخطوة وأثرها على حياته قال إنه عندما تخلص من اسمه قد تخلص من أحزانه، فاسمه كان عذاباً نفسياً بالنسبة له. أرجو أن تتأمل معي قليلاً وتفكر بتجرد... اسم الإنسان مجرد أحرف ترمز إليه، فهل من المعقول أن لها أثراً على مشاعره أو حتى شخصيته وحياته؟ هَبني شيئاً من وقتك أوضح لك بعض الحقائق... إن أدمغتنا لا تنظر إلى أسمائنا على أنها مجرد أحرف، إنها تتعامل معها على أنها جزء من كياننا وهويتنا، ففي تجربة أقامها عالم الأعصاب السيد دنيس كارمودي Dennis Carmody وضع المشاركين في أجهزة أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ FMRI، ثم يتم مناداتهم مراراً وتكراراً بين الحينة والأخرى، وكانت النتيجة أن المشاركين كانوا إذا سمعوا أسماءهم تنشط في أدمغتهم المناطق المسؤولة عن الوعي وإدراك الذات، أي يمكنك القول إن الدماغ يدرك أن اسمك جزء منك تماماً كما هي يَدُك أو ملامح وجهك. ولك أن تصدق أن يمكن -إلى حد كبير- تخمين اسمك من خلال ملامح وجهك، فقد نشرت المجلة العلمية Journal of Personality and Social Psychology بحثاً عام 2017م يتحدث عن ارتباط الاسم بالمظهر والشخصية. حدد العلماء القائمين على تجارب البحث خمسة أسماء مختلفة، وجمعوا العديد من الصور الشخصية لأشخاص يحملون أحد تلك الأسماء الخمسة، ثم وضعوا الصور أمام المتطوعين للتجربة وطلبوا منهم أن يحددوا اسماً لكل صاحب صورة أمامهم من بين الأسماء الخمسة المتاحة لهم، ليروا هل من الممكن تمييز اسم الإنسان من مظهره فقط. وكانت النتيجة أن المشاركين اختاروا 40% من الأسماء بشكل صحيح، وتم تكرار هذه التجربة بأكثر من دولة، وكان المتطوعون الفرنسيون ينجحون بشكل أفضل في تحديد أسماء صور الفرنسيين، وكذلك أبناء الكيان الصهيوني مع صور أبناء جلدتهم بدقة تصل إلى 60%. ثم أدخل العلماء القائمين على التجربة صور مئة ألف إنسان على برنامج في الكمبيوتر، يحملون في مجملهم عشرة أسماء مختلفة، وبرمجوا خوارزمية تُـمكِّـن البرنامج من إيجاد رابط بين الاسم ومظهر الإنسان، ثم طلبوا من البرنامج أن يحدد أسماء صور أخرى عرضت له، واستطاع البرنامج أن يحدد أسماء 64% بشكل صحيح من خمسين ألف صورة أخرى عُرضت عليه، وهذه نسبة أكبر من أن تكون جيئت من قُبيل الصدفة، وهذا يؤكد -بشكل وثيق- أن هناك علاقة بين الإنسان وملامح وجهه. وأشار تراثنا الإسلامي أن هناك ارتباط بين اسم الإنسان وشخصيته، فقديماً قال الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام: "إن لكل امرئ نصيب من اسمه"، وهذا ما أثبته العلم حقاً. في دراسة مثيرة للاهتمام نُشرت عام 2007م بعنوان Moniker Maladies على مجموعة من طلبة الكليات في أمريكا، كان الطلبة الذين تبدأ أسماؤهم بـ A أو B يحصدون معدل درجات أفضل من الطلبة الذين تبدأ أسماؤهم بـC أو D، وأن الطلبة بأسماء تبدأ بـA وB كانوا مرشحين أكثر ليذهبوا إلى أفضل كليات الحقوق مقارنة ببقية الطلبة، و حرفي A و B إشارة إلى الامتياز والجيد جداً في النتيجة المدرسية. وفي ذات الدراسة حلل القائمين على التجربة ضاربي البيسبول في آخر مئة سنة في أمريكا، ووجدوا أن الضاربين الذين تبدأ أسماؤهم بحرف K هم من أفضل الضاربين، وفي البيسبول K تشير إلى الضربة الناجحة. وهذا يؤكد أن لاسمك نصيب من شخصيتك بل وحتى مهارتك وذكائك وتميزك الدراسي. وفي دراسة أجرتها جامعةOldenburg الألمانية أكدت أن هناك أسماء تثير نفير الألمان ومنها بالدرجة الأولى كيفن، بينما حظيت أسماء أخرى باستحسان وقبول واسع لدى الألمان مثل ماكسيميليان. وعندما سألوا المعلمين عن أسباب امتناعهم عن تسمية أولاده بـ"كيفن" وردت إجابات من قبل العديد منهم مؤكدين أن أغلب التلاميذ الذين يحملون هذا الاسم هم غير مهذبين وكسالى، ويشاركهم في ذلك عدد من أطباء الأسنان الذين قالوا أن كيفن يوحي بأن حامله هو شخص ذو أسنان مليئة بالتسوس. ولا تتعجب لو قلت لك أن الألمان يكرهون اسم كيفن لأنه دلالة على الولد المشاكس في فيلم Home Alone والذي كان اسمه في الفيلم كيفن.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 19 Jan, 2024
لست مجنوناً.... أو أقلاً هذا ما أستطيع ادعاءه عن نفسي، وإن كان يحلو لبعض الناس أن ينعتوني مخبولاً، فاصغ إلي واستمع مني هذه القصة والدراسات، وراقب سلامة عقلي، فإن رأيتني رزين الدماغ فتقبلها مني. قبل أربع سنوات وفي مدينة ليفربول وعلى رصيف محطة القطار، في برودة شهر يناير عندما يترجف الضمير قبل المفاصل من شدة البرد، رأيت رجلاً ذو ملامح عربية قحاح يرتدي معطفاً طويلاً ويتحدث بكل غضب وامتعاض على الهاتف بلهجته السعودية، يكيل وابلاً من الاتهامات بالحماقة وعدم المراعاة. عندما أنهى مكالمته تحولت فورة غضبه إلى لحظات من الانكسار والضعف لا يملك سيطرة على دموعه، بدا وأن الدنيا -بما رحبت- في عينيه أضيق من محطة القطار، حينها -ودون أي مقدمات- شعرت بمسؤولية على عاتقي أن أُقدم له شيئاً وأن أخض معه حرب المشاعر هذه وإن لم تكن حربي.... أحسست لوهلة أن هذا السيد هو مهمتي القادمة في الحياة. دنيت منه، ولعلها كانت إحدى لحظات حياته التي يتمنى المرء فيها أن يتمتع بعزلته عن العالم، لكنني زاحمته وقلت له بلطف وصوت هادئ "أعتقد أنك سعودي... يا سيد معطفك رائع جداً... تبدو أنيقاً حقاً، فقط أحببت قول هذا"، ورجعت خطوتين إلى الوراء وبقيت أنظر إليه... وليتك يا سيدي القارئ معي في تلك اللحظة، لرأيت شمساً انتهى كسوفها للتو، وجهه الذي كان قُبيل لحظات تتلاطم على خديه الدموع تسللت له ابتسامة مبهجة، تكاد تستحي منها الأحزان أن تجلس في قلبه. شكرني بصوت يرتجف متقطعاً تدرك عند سماعه أنه يحاول كبح سيل من العويل والبكاء لائذاً بباقية صبر وتجلد، وأخبرني أنه يمكنني أخذه كهدية إن أعجبني صدقاً، فقلت له "تبارك الرحمن!!! علاوة على أناقة هندامك هناك شخصية كريمة معها!!! لو كانت الحياة تعطينا على قدر استحقاقنا لما أظنك بكيت... لكنها وللأسف لا تعمل بهذه الطريقة، إن لكل امرئ منا حصته من المصاعب والمشاكل التي قد لا يريدها أو يتمناها لكنها ستقع حتماً رغماً عنه فهذه هي الحياة كما ترى" احتضنني حينها... ولربما ذلك كان كل ما يحتاجه في تلك اللحظة، تكللني الندم عندئذ... فمن المبتذل أن تعطي نصيحة لشخصٍ جُل ما يحتاجه "عناق". ومن ليفربول إلى مدينة يورك نادمته في القطار وبقينا نتحدث لما يزهو عن الساعتين بقليل، وبقلب صادق أشدت بشخصيته وتفكيره مثنياً عليه مادحاً إياه... لقد تمخطرت إلى حرب مشاعره بسيف من خشب يُدعى "المجاملة" بـيدَ إني انتصرت... كان يضحك معي ويمازحني بشدة، وكأنه يريد -بقسوة- الانتقام من تلك الدموع. لم أره بعدها... إلا أننا بقينا متواصلين على برامج التواصل الاجتماعي، ولقد أخبرني قبل كتابتي لهذا المقال بأسبوع أن تلك المحادثة العابرة قد غيرت مسار حياته، فلقد كان ينوي الانسحاب من برنامج الماجستير المنتسب إليه، إلا أنه أدرك أن قراره كان تحت طائلة الحزن، وتلك حتماً أتعس قرارات الإنسان وأكثرها ندماً، وها هو اليوم تخرج أخيراً بدرجة الدكتوراه من ذات الجامعة التي حظيت منها بدرجة الدكتوراه أيضاً في ليفربول. سيدي القارئ... أ تعلم أن تؤدي بالإنسان مجاملة عابرة؟ في الدماغ في النواة المتكئة وما حولها، هناك هياكل ومسارات عصبية يُسميها علماء الأعصاب بنظام المكافأة، تتحفز عندما يكسب الإنسان بعض المتعة كأن يمارس الجنس أو يأكلاً طعاماً يحبه أو يكسب شيئاً من المال، وفي دراسة عام 2008 لعالم الأعصاب الياباني Keise Izuma من جامعة كاناغاوا اليابانية، راقب فيها أدمغة عدة أشخاص من خلال أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي FMRI، رأى أن "نظام المكافأة في الدماغ" يتحفز بشكل كبير عندما يتلقى المشاركون في التجربة بعض المجاملات، فإحدى المشارِكات في التجربة عندما تلقت مجاملة حول ثوبها -المليء بالورد الذي يشبه لون خديها- بدا الأمر وكأن هناك مهرجان من الدوبامين -هرمون السعادة- في تلك المسارات العصبية. يا لرقة الإنسان... تصنع به كلمة كل هذا المستوى من الفرح!! وفي دراسة من ذات الجامعة ولكن للدكتور Sho Sugawara عام 2012 جيء بـ48 بالغ، وحاول مدربون مختصون تعليمهم مهارات جديدة لم يتدربوا عليها من قبل، كالرقص والعزف على البيانو، تلقى 16 مشاركاً ثناءً ومجاملات على أداءاتهم الأولية وممارستهم المبتدئة، وفي الحصيلة كان أداء من تلقوا المجاملات مميزاً جداً وأتقنوا المهارات بشكل أفضل عن البقية ممن لم يتلقوا تلك المجاملات. وهذا لا ينعكس على المهارات الحركية فقط، بل إن المجاملات تُـحسن من أداء الشخص عموماً في أي مهارة كانت سواء عقلية أو حركية أو غيرها، ناهيك عن كونهاً تقطع شوطاً طويلاً في سعادته. في سلسلة دراسات وتجارب لعالمة النفس الاجتماعي من جامعة كورنيل السيدة فانيسا بونز Vanessa Bohns نشرتها قبل سنتين، تناولت فيها تقديم المجاملات من أكثر من زاوية... وإليك بعض تلك الدراسات: في دراستها الأولى جعلت السيدة فانيسا بعض الطلبة المشاركين في التجربة يذهبون إلى حرم الجامعة ويقدمون مجاملات لطلبة -لا تربطهم بهم أية علاقة مسبقة- حول أناقتهم وجمال لباسهم، الطلاب الذكور لزملائهم الشباب، والطالبات لزميلاتهن الفتيات، وبعد أن يخرج متلقي المدح من الجامعة يتم إعطاؤه ظرفاً فيه استطلاع رأي حول مدى سعادته بالمجاملات التي سمعها اليوم، كذلك مقدمي الإطراء يتم استطلاع رأي حول اعتقادهم بمدى سعادة غيرهم بما سمعوه منهم من مجاملة. أظهرت هذه الدراسة الاستقصائية أن مقدمي المجاملات قللوا من شأن مجاملاتهم وأنها حتماً لن تضيف الكثير لسعادة الآخرين، بينما البيانات أكدت أن متلقي المجاملة شعروا بسعادة كبيرة وارتياح أكثر بكثير مما توقعه مانح المجاملة. في الدراسة الثانية منح الطلبة المشاركون حرية المجاملة حول أي شيء وليس فقط الملابس، وكذلك قلل مقدمي المجاملة من مدى إسعادها للآخرين، بينما البيانات أكدت أن متلقي المجاملة شعروا بلذة وبهجة شديدة بما سمعوا. في الدراسة الثالثة طرحت الدكتورة سؤال "هل يتجنب الناس إعطاء المجاملات للغرباء لأنهم قلقون بشأن جعل المستمعين لها يشعرون بالحرج أو عدم الارتياح أو الريبة؟، وفي هذه الدراسة طُـلب من مقدي المجاملات التنبؤ إن كان لدى متلقي المجاملة مشاعر سلبية بسبب مجاملة الغرباء لهم، وتم عمل استطلاع رأي لمتلقي المجاملة وكذلك مانحيها، وكانت النتيجة أن مقدمي المجاملات بالغوا بشكل كبير في تقدير مدى انزعاج الآخرين منهم وعدم ارتياحهم لمجاملة الغرباء، بينما حقيقة البيانات كان غالبية متلقي المجاملة مستمتعين بما سمعوه ولم يقلقوا -إلى حد كبير- من مجاملة غريب لهم بالأخص كونها مجاملة عابرة. وفي دراسة أخرى لدكتورة علم النفس كرستينا تايلور Christina Taylor من جامعة القلب المقدس جعلت مجموعة من الأشخاص يمارسون المجاملات يومياً ويدونوا مشاعرهم في مذكراتهم اليومية، فتوصلت إلى أن تقديم المجاملة عمل إنساني لطيف يجعل الإنسان يشعر بالرضا اتجاه نفسه وهو حتماً ما سينعكس على احترامه لذاته وبالتالي سعادته ونجاحه في الحياة. إذاً سيدي القارئ الدراسات تؤكد على روعة المجاملة وانعكاسها على شعور المتلقي والمعطي على حد سواء، فلماذا يعرض الكثيرون عنها؟ كما قرأت في الدراسة الثالثة للدكتورة فانيسا مقدمي المجاملات قد يعتقدون أن مجاملة شخص غريب قد تسبب له شعوراً بعدم الارتياح أو الانزعاج، ولعلهم يتجنبون تقديمها أدباً، مع العلم أن البيانات تؤكد أن الغالبية الساحقة تفضل المجاملة -ولو من الغرباء-، وبالأخص إن كان من ذات جنس مقدم المجاملة. أما عن مجاملة الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقة ومعرفة مسبقة فإننا نحجم عن مجاملتهم لأسباب مختلفة، فكما قرأت في الدراسة الأولى والثانية السابقتين للدكتورة فانيسا أننا نقلل من حجم تأثير المجاملة على سعادة الآخرين فنستنقص منها ولا نبديها. وفي ذات البحث للدكتورة فانيسا أشار الكثير من المشاركين في التجربة أنهم لا يُفضلون إبداء المجاملات لأنهم يظنون أن مجاملاتهم قد تكون ساذجة أو غير جيدة بما يكفي لكي يتقبلها الآخرون بصدر رحب وسعادة، وهذا ما كذبته بيانات الدراسة أيضاً. لذا سيدي القارئ إن كنت لا تستحسن تقديم المجاملات للآخرين وإبداء الثناء والمدح اللطيف لهم أرجو أن تغير هذه الدراسات شيئاً من تفكيرك... امنح نفسك الفرصة لتكون سبباً في إسعاد الآخرين ونفسك على حدٍ سواء، وكن دافعاً لتطوير أداء الآخرين ونجاحهم، ولا تتردد في تقديمها متكهناً بأنها ستزعجهم.... العلم يحثك ويدفعك بإصرار على تقديمها، فهي بلا شك ستسعدك وتسعدهم وتُحسن أداءهم، واترك تلك الاقتباسات الحمقاء التي تعج بها برامج التواصل الاجتماعي عن قبح المجاملة، كما رأيت هذا ليس كلام العلم. وإليك هذه النصائح اليسيرة لتكون مجاملتك أشد فاعلية وأقرب لقلب المتلقي. 1- اجعل مجاملتك شخصية، امتدح شيئاً فيه كطريقة تفكيره أو ذوقه وما أشبه، لا تمتدح أشياءً عامة كعرقه أو سكان دولته أو قبيلته. 2- قدم المجاملة بصدق دون وجود نية سيئة خلفها، لتكن فعلاً معجباً -ولو نسبياً- بالشيء الذي تمدحه، وتذكر أن الناس مثلاً لا تحبذ مجاملات مندوب المبيعات لأنه ربما يقول ذلك مستغفلاً غيره، وحتماً سترفض فتاة تغزل أحدهم فيها متحرشاً ولو من باب المجاملة. 3- لتكن مجاملتك في نقطة محددة، سيكون ذلك أكثر صدقاً من تكديس الثناء العام، قلوب الناس عموماً تميل لتلك المحادثة القصيرة. أما السيد ذو المعطف الدكتور نايف.... فلقد كان أنيقاً حقاً وحذق بعقلية رائعة ويستحق هذه الدرجة العلمية، ولكن عليه أن يحمد الله أنني لم أقبل مجاملته بأخذ المعطف... لكان تجمد من البرد 😜 .
المزيد من المقالات

كتبي المتاحة للبيع

روايتي "واحد عباسيه - عندما تكون عاقلاً في أماكن مجنونة"


ماذا لو أُدخلت بالخطأ لمستشفى الأمراض النفسية كيف ستثبت لهم أنك عاقل؟

إن من العسير والمؤسف حقاً أن يرى المرء نفسه في موضع لا ينتمي له، كأن يكون عاقلاً في أماكن مجنونة

رواية "واحد عباسيه" قصة مبنية على أحداث حقيقية تماماً تتحدث عن ستة أشخاص أدخلوا بالخطأ لمستشفى الأمراض النفسية، هل سينجحون في إثبات رزانة عقلهم للطبيب؟ ولماذا أدخلو لها أصلاً ؟!! وما هي النصائح الحياتية المهمة التي سيقدمها لهم الطبيب النفسي من أجل حياة أكثر سعادة

سيدي القارئ ... تحتوي هذه المدونة على أحدث مقالاتي التي كتبتها آخر سنتين ... أما ما سبق منها فقد اخترت لك أجملها وأكثرها قراءة وجمعتها في كتاب "مقالات من مصنع السيجار" ويمكنك شراء النسخة الورقية من دار كلينيكوم .... وسيصل إلى باب دارك.

يمكنك شراء كتبي بالضغط  Klinikum على

حساباتي على مواقع التواصل الاجتماعي

Share by: