المقالات

في كل مقال ستجد حكاية ... أهلا بك بين حكاياتي

بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 09 Feb, 2024
إلى أي مدى تظن أن معتقداتك وآراءك الفكرية والدينية والحياتية صحيحة؟ في الحرب العالمية الثانية احتلت اليابان جزيرة "كيسكا" الواقعة بين اليابان وألاسكا في شمال المحيط الهادي، وكانت ذات مكانة إستراتيجية لأمريكا، فاستنفر الأمريكان، واستعد أربعة وثلاثون ألف جندي أمريكي وكندي عام 1943 لاستعادة الجزيرة، رغم أنهم كانوا في مرحلة التعافي بسبب الخسائر والإصابات الفادحة التي لحقت بهم بسبب محاولتهم استعادة جزيرة "أتو" القريبة من هذه الجزيرة، لأن اليابانيين في الجزيرة استقتلوا وصمدوا وأوقعوا هزيمة نكراء فيهم، لذا كان قادة الجيش الأمريكي متأكدين كلياً أن المعركة ستكون حامية الوطيس، وشرسة إلى أبعد حد. عندما رست سفنهم الحربية على ضفاف الجزيرة وجدوها غارقة في ضباب صقيعي كثيف جداً يحجب الرؤية في جو من البرودة الشديدة، فتقدمت القوات الأمريكية والكندية بخطوات حذرة كرجل أعمى يطأ مكاناً للمرة الأولى، محاولين في ذات الوقت تفادي الألغام والأشراك التي نصبوها اليابانيين، وفجأة انهمرت عليهم الأعيرة النارية من كل حدب وصوب، ورغم ما يصاحب الطلقات من نار ونور إلا إنها لم تظهر لهم الأعداء من شدة الضباب، فدافعوا وردوا على الطلقات بطلقات وأكملوا مسيرهم رغم تلك الموجة العنيفة من النيران، واختبأوا خلف هضبة صغيرة في وسط الجزيرة. وبعد 24 ساعة وعندما انقشع الضباب وأسفر الصبح أتيح للأمريكان والكنديين عد خسائرهم، فكانت 78 ما بين قتيل وجريح، ويا للسخرية!! لقد اكتشفوا أن الجزيرة الصغيرة كانت خاوية بالكامل، ومنذ وصولهم كانوا وحدهم على تلك الجزيرة، وأن الأمريكان والكنديون كانوا يطلقون النار بعضهم على بعض بكل غباء. ولعلك تظن أن هذا الخطأ وارد جداً نظراً لوجود الضباب..... حسناً لم تحسن التخمين. كان فريق المراقبة والاستطلاع الجوي الأمريكي قد أخبر القادة الأمريكيين بالفعل قبل ثلاثة أسابيع من وصولهم إلى الجزيرة أنهم لا يُلاحظون أي نشاط ياباني فيها وأنهم يرجحون بأن اليابانيين قد غادروا الجزيرة بالفعل. لم يلتفت القادة لتقارير فريق الاستطلاع، بل قُبيل وصولهم للجزيرة بأيام رفضوا عرضاً من فريق الاستطلاع للقيام بجولة جديدة لرصد الجزيرة واليابانيين، لأنهم كانوا متأكدين تماماً من أن الزعماء اليابانيين الذين استقتلوا في "أتو" لن يتركوا هذه الجزيرة هكذا دون معركة تـتـناثر فيها الأشلاء. ونظراً لتمسكهم بآرائهم واعتقادهم بصحتها مات الكثيرون هباءً منثوراً..... هذا ليس تصرفاً فريداً من نوعه في تاريخ البشرية، بل إن أدمغتنا مفطورة على الميل للاعتقاد بصحة أفكارها والانحياز لها، وتفضيل المعلومات والأدلة التي تؤكد معتقداتنا أو قيمنا وآرائنا التي نؤمن بها حالياً، وازدراء كل الأدلة المناقضة والتقليل من قدرها، بل حتى ذاكرتنا تُقرب إلى أذهاننا ما يخدم رأينا ويدعمه مبعدةً عنا ما يخالفه. يُسمي علماء النفس هذا الميل بـ "الانحياز التأكيدي Confirmation bias"، وقد أقيمت عليه مئات الدراسات منذ عام 1977 وإلى يومنا هذا لفهمه ومعرفة ماذا يدور في أدمغتنا، ومحاولة تحذير الناس من الوقوع في شِراكه، وهبني دقائقاً من وقتك أوضح لك بعض تلك الدراسات. أجرى الدكتور كارليس لورد Charles Lord تجربة شيقة، إذ أحضر مجموعة مؤيدة بشدة لحكم الإعدام، وأخرى مناهضة له بقوة، ثم عرض على كل مجموعة الأدلة التي تخالف آراءهم، فلم يغير ذلك من معتقدهم، وشككوا في الأدلة، بل وزادتهم إصراراً وتمسكاً برأيهم. ثم أتى بمجموعتين جديدتين، وعرض عليهم أيضاً الأدلة التي تخالف معتقداتهم، بَـيـدَ أنَّـه شرح لهم الانحياز التأكيدي وطلب منهم وضع ذلك في الحسبان والتفكير بمنطقية وإنصاف دون تحيز، لكن ذلك لم يجدي نفعاً، وانحازوا لآرائهم، واستخفوا بالأدلة وضربوا بها عرض الحائط.... أي حتى معرفتنا بالانحياز التأكيدي لن تُـنجينا من الوقوع فيه. بل في دراسة أخرى تم شرح هذا الانحياز لما يدنو من 150 شخص، ثم سألوهم هل تعتقدون أنكم تقعون فيه، ولك أن تتخيل أن شخصاً واحد فقط من أولئك الـ 150 رجح أن يكون واقعاً فيه، بينما البقية كانوا واثقين من أن آراءهم مبنية على أدلة رزينة دون تعصب.... وهذه ترهات. كلنا نقع فيه... إن ذاكرتنا مصممة لمثل هذا الانحياز. قام بروفيسور علم النفس السيد مارك سنايدر Mark Snyder بدعوة عدد من الأشخاص إلى مختبره، وعرض عليهم سرداً شاملاً لأحداث وقعت في أسبوعٍ واحد من حياة امرأة تُدعى Jane، تحتوي على أنشطة انطوائية وأخرى منفتحة على المجتمع. وبعد يومين دعاهم مرة أخرى إلى مختبره، وطلب منهم اختيار وظيفة مناسبة لها وفقاً لما رأوه من حياتها، وخَـيَّـرهم بين وظيفة أمينة مكتبة -أي مهنة انطوائية نوعاً ما- وبين وظيفة بائعة عقارات -أي عمل يتطلب الاحتكاك بالمجتمع-. المجموعة التي اختارت (أمينة مكتبة) كانت تستدل بالأنشطة الانطوائية التي قامت بها ونسيت أعمالها الأخرى دون إدراك منها بذلك، كذلك المجموعة التي اختارت (بائعة عقارات) غفلت عن أعمالها الانطوائية وتذكرت المنفتحة فقط، أي في كِلا المجموعتين كانت الذاكرة تسعف الدماغ بالذكريات التي تثبت صحة رأيها دون الالتفات إلى ما يناقضها. لم يكن بين المشاركين من يقول إن المرأة تصلح لكِلا الوظيفتين أو يُطالب بالمزيد من التفاصيل ليتأخذ رأياً حاسماً، فأدمغتنا عادة ما تنحاز إلى رأيٍ ثم تحاول إثباته من خلال الأدلة المشابهة لرأيها والمتاحة أمامها، دون إرهاق نفسها بالتمحيص والتدقيق، فهذا يتطلب مجهوداً دماغياً كبيراً وأدمغتنا أكسل من أن تقوم بهذا لكل فكرة ستؤمن بها. والأمر يصبح أسوأ وأسوأ لو كانت هذه الفكرة التي نؤمن بها لها جانب عاطفي، كالولاء أو المحبة وما إلى ذلك من مشاعر مفعمة. في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2004 بين بوش الابن وجون كيري، أجرى علماء النفس تجربة حول الانحياز التأكيدي، إذ أحضروا لكِلا طرفي التنافس في الانتخابات مجموعة من محبي ومؤيدي ذلك الطرف. يعرض القائمين على التجربة لمحبي جون كيري مقاطع من كلامه تكون سخيفة نوعاً ما، وكذلك أنصار جورج بوش يُشاهدون شيئاً من كلامه بذات المستوى من الحماقة. ثم يتم مراقبة أدمغة المتطوعين للتجربة من خلال الأشعة الوظيفية للدماغ FMRI ليروا ما يتفاعل في أدمغتهم، وأثناء ذلك يُناقش محلل سياسي كل متطوع على حدة، ويقوم بتفنيد آراء مرشحه السياسي ويوضح له سفاهتها. لاحظ القائمون على التجربة أن المناطق الدماغية التي نشطت عند ذلك الحوار هي المناطق المناطة بالعواطف، ثم بعد برهة تنشط أجزاء التفكير المنطقي للدفاع عن مرشحهم، وكثير من المتطوعين لم تكن تنشط لديهم مناطق التفكير بمقدار كبير، بل يعتمدون على المشاعر كلياً في الدفاع عن مرشحهم، وكلما زاد نشاط مناطق العاطفة زادت قوة دفاعهم عن مرشحهم. وهذا يعني أننا البشر ندافع عن آرائنا بشراسة لأن مشاعرنا مندفعة إليها بقوة، هذا إن لم تكن قناعاتنا مبنية على أسباب عاطفية لا منطقية أصلاً، بل حتى إن كنا مؤمنين بها عن قناعة وتفكير فإن مشاعرنا تقودنا -دون وعي منا- للتحفظ على تلك الأفكار والآراء وتأييدها كأنها جزء منا.... هكذا تعمل أدمغتنا. ووفقاً لدراسة قام بها الدكتور ديفيد سيلفرمان David Silverman عام 2011 فإن غالبية الناس تعزز معتقداتها وتميل إليها بقوة عندما يتم تحديها بأدلة متناقضة. ولعله يتبادر إلى ذهنك الآن سؤال "إذاً كيف الخلاص؟!" كيف السبيل للتخلص من انحيازنا التأكيدي وانحياز الآخرين؟ في دراسة الدكتور كارليس لورد آنفة الذكر -حول الاقتناع بالإعدام- حاول بأكثر من طريقة ابتكار استراتيجية تحول بيننا وبين الانحياز التأكيدي، وقد نجح بالفعل، إذ أتى بمجموعة متعصبة لرأيها، وطلب منهم التدقيق في الأدلة بعناية، ويسألوا أنفسهم ويفكروا عميقاً قبل رفض أو قبول أي دليل إذا ما كانوا سيصلون إلى نفس التقييمات الداعمة أو الرافضة لو أظهر الدليل نتيجة مختلفة عما يؤمنون به مسبقاً. فعلى سبيل المثال إذا قُـدِّم لهؤلاء المتعصبين دراسة تشير إلى أن عقوبة الإعدام خفضت من معدلات الجريمة، كان يُطلب منهم تحليل منهجية الدراسة، وتخيل أن النتائج أشارت إلى عكس ذلك الاستنتاج. وقد حققت هذه الاستراتيجية نجاحاً يُعتد به، وغيرت آراء العديد من المشاركين في التجربة، وأزاحت عن خيالهم النقطة العمياء التي تحجب عنهم رؤية العالم على غير ما يفترضون، لكنَّ هذه الاستراتيجية مرهقة للتفكير وعلى الأرجح أننا لن نقوم بها لكل فكرة نؤمن بها... أدمغتنا كسولة، لكن حَري بنا استخدامها عند التدقيق في الأفكار التي سيترتب عليها مصير حياتنا أو جودتها. أما محاولة اقناع الآخرين بما تؤمن به دون أن يتحيزوا لآرائهم -إن كانت مخالفة لك- فتلك مهمة ثقيلة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، يقول الدكتور ديفيد سيلفرمان في دراسته أن نقاشاً واحداً من الأدلة الدامغة لا يُغير آراء الناس بل يُعززها، ولكن تدفق مستمر للتفنيد بالأدلة القاطعة يمكن أن يصحح المعلومات والمفاهيم الخاطئة. (يعني فيك وما حنيت... حن عليهم إلى وقت يقتنعون😜) وأيضاً بعض الدراسات التي حاولت تغيير رأي المنحازين لضرر التطعيم والمؤامرة المحاكة خلفه، استخدمت العاطفة كأسلوب للإقناع.... ونجحوا في ذلك، أي استمالة عواطف الناس واللعب على وتر المشاعر قد يُغير من آرائهم.... فالمشاعر لها قدرة هائلة على العبث في قراراتنا وآرائنا. والآن سيدي القارئ.... هل ما زلت تعتقد أن كل أفكارك ومعتقداتك صحيحة وأنك لم ترجح دليلاً على حساب دليل آخر عند إيمانك بها؟ أرجو أن يكون الجواب لا..... (تعال تعال ليش نعم.... شنو اسم الله عليك يوحى لك أنت؟! 😜)
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 02 Feb, 2024
نحن في ورطة حقيقية... قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟ قد لا أُقدم لك حلاً في هذا المقال، لكنني لن أسرق وقتك دون جدوى... سأشرح لك كيف تُدار الأمور في دماغك، وأنت من عليه أن يخترع الحل. هل سمعت بإمبراطورية "خوارزم" من قبل؟ غالباً لا.... والسبب لأنها مُحيت من الوجود. كانت من أهم إمبراطوريات العصور الوسطى أروعها بنياناً وأكثرها ثراءً وتقدماً في العلوم، ومركزاً للثقافة الإسلامية، تمتد من الهند جنوباً إلى أطراف روسيا والبحر الأسود، وإلى الخليج العربي غرباً، ضامة كل دول آسيا الوسطى. في عام 1217م تلقى إمبراطور خوارزم الشاه علاء الدين رسالة من جاره حاكم إمبراطورية المغول جنكيز خان مكتوب فيها "أنا سيد أرض مشرق الشمس، بينما تحكم أنت تلك الأراضي التي تغرب فيها الشمس، دعنا نبرم معاهدة من الصداقة والسلام". كان جنكيز خان قد وَحَّـد شمال الصين وكل الدويلات المحيطة بإمبراطوريته، مقاتل شرس لا يُستهان بقوته، خاض حروباً دموية لبناء إمبراطوريته، وقد كان عند كتابة هذه الرسالة قد بلغ الستين من العمر، وكبر على القتال ويريد قضاء آخر سنوات حياته في الراحة والاستجمام بعد ذلك العمر الطويل على صهوات الجياد، محاولاً تنمية تجارة إمبراطوريته وكسب مودة جيرانه. بعث جنكيز عدة مراسيل إلى علاء الدين، محملة بالهدايا، وقد أرسل ذات مرة كتلة ذهبية ضخمة جداً، ومعها رسالة مكتوب فيها: "لدي رغبة كبيرة في العيش في سلام معك، يجب أن أراك وجهاً لوجه يا بني". لم يستلطف علاء الدين رسائل جاره، وشعر وكأنه يستصغره بنعته بني وحاكم أرض المغرب، لذا كان علاء الدين كارهاً لشخص جنكيز غير آبه بالقيام بالتجارة معه رغم ما ستحققه من الانتعاش الاقتصادي والثروة لكِلا الطرفين، وهذا ما كان يفكر به جنكيز بكل منطقية. أرسل جنكيز مبعوثـه الشخصي، إلى خوارزم مع قافلة ضخمة جداً تضم 450 تاجراً مسلماً من اليغور و500 جمل يجرون عربات محملة بأروع البضائع والمعادن الثمينة. وصلت القافلة إلى إحدى مدن خوارزم، فاستبشر تجارها الذين سيتمكنون أخيراً من اقتحام السوق الصيني وتبادل التجارة مع المغول، إلا أن حاكم تلك المدينة أمر جيوشه بقتل كل من في القافلة، وسرق كل ما فيها، متحججاً أنه اشتبه بهم أنهم جواسيس. صدم خبر مقتلهم العالم فكيف تقتل جيوش مسلمة تجاراً مسلمين لم يرتكبون ذنباً!!! جنكيز رغم امتعاضه الشديد مما حصل قرر إعطاء علاء الدين فرصة ثانية، فأرسل ثلاثة مبعوثين، أحدهم مسلم واثنان من المغول، وطلبوا من علاء الدين أن يضع لدم المسلم حرمة وللتجارة احتراماً، فيُعاقب الجناة ويرجع السلع إلى أصحابها، ويدفع دية قتل المسلم للمسلم، كي يحل السلام. هل اتخذ علاء الدين قراراً منطقياً لحقن الدماء وإنماء التجارة؟ كلا... غالبته مشاعر الغرور والخيلاء فقتل المبعوث المسلم، وحرق لحية المغوليين وأعادهما إلى جنكيز خان مذللين مشوهين. فما كان من جنكيز إلا أن أرسل رسالة أخيرة إلى علاء الدين مكتوب فيها: "استعد للحرب أنا قادم". ولعلك تعرف الآن بقية التاريخ.... لقد أعمى الحقد قلب جنكيز ومحى تلك الإمبراطورية من الوجود، فأباد أي مدينة تقف في وجهه ولا تريد الاستسلام، حارقاً بيوتها قاتلاً كل من يتنفس فيها حتى الكلاب والقطط، لكنه ترك المساجد دون أي يلمسها احتراماً لدماء اليغور الذين قُتلوا في بادئ الأمر، والذين قاتلوا في صفوف جيشه أيضاً. مات جنكيز خان... لكن أكمل أبناؤه وأحفاده سلسلة القتل وتخريب البلدان وعاثوا في صفحات التاريخ فساداً وصبغوها بالدماء، إلى أن ضعفت إمبراطوريتهم وتلاشت. لماذا كل هذا؟ لأن هناك أحمق يُدعى علاء الدين عوضاً أن يتبع عقله والمنطق السليم في معاهدة الصداقة والتجارة راح يتبع مشاعره وغروره، والذي خَلف في قلب جنكيز مشاعر مقيتة أخرى أعمته عن أي صوت للعقل وأصبح وحشاً لا يمكن احتواءه. وأنت سيدي القارئ... هل تتبع قلبك أم عقلك في غالبية قراراتك؟ في الحقيقة -ومن ناحية علمية- القرارات العاطفية تُدار في الدماغ في الفص الجبهي لا القلب، بينما القرارات العقلانية في اللوزة الدماغية وبقية مناطق صنع القرار في الدماغ، ولا يوجد في الدماغ زِرَين (عاطفة – منطق) يمكن لنا ضغط أحدهما عندما نفكر في اتخاذ القرار... الدماغ لا يجري وفق هذه الطريقة. غالبية البشر عندما يكونون في منطقة الهدوء وبعيداً عن الأزمات والهيجان العاطفي تكون قراراتهم مَـيّـالةً للمنطق تجري وفق المبادئ العليا والأخلاقيات، وما إن يتعرضون لاستثارة عاطفية حتى يتبدل الأمر غير الذي كان، وينجرفون نحو القرارات العاطفية إلا من رحم ربي وقاوم مشاعره واتبع المنطق. في دراسة أجراها عالم الاقتصاد السلوكي الرائع دان آريلي Dan Ariely أحضر لمختبره مجموعة من الطلاب الأذكياء المميزين في الجامعة، فيوضع الطالب في غرفة لوحده ثم يتم سؤاله بعض الأسئلة -من خلال شاشة كمبيوتر- حول القرارات التي سيتخذها عندما تُعرض عليه إمكانية الدخول في علاقة عاطفية قد لا تحتوي على مقدار من الأمان، بل لربما تسبب له مشاكل اجتماعية أو حتى صحية كبعض الأمراض. جميع الطلبة أجابوا بمنطق ورجحوا عدم خوضهم في تلك العلاقات إلى حد ما. بعد أسبوع يُؤتى بذات الطلبة إلى المختبر مرة أخرى، ويُسأل بذات الكيفية أسئلة تشبه إلى حد كبير أسئلة المرة الأولى، ولكن هذه المرة قبل الأسئلة يتم إثارته عاطفياً وتهييج شعور الشهوة لديه من خلال بعض المحتويات التي تُعرض له في الغرفة. في خضم النشوة تغيرت أجوبة الطلبة بشكل مدهش، أصبح لديهم رغبة في الانخراط في مجموعة من الأنشطة المنحرفة وخوض تلك العلاقات، وتبدلت أجوبتهم بمقدار 72% نحو الأسوأ. لم يعودوا أولئك المنطقيون... لقد طاشت أدمغتهم بفعل تلك المشاعر المتهيجة، وهذا هو حال غالبية البشر، وسواء كانت المشاعر نبيلة أو مبتذلة حتماً ستُـغير من قراراتنا بشكل لا يُصدق، فحين نظن أننا سنختار العقل والمنطق دوماً ستأتي لحظات ونضعف أمام عاطفتنا فنختار ما تُمليه علينا، أول لعل عاطفتنا تُؤثر على قراراتنا المنطقية دون أن نشعر. وإليك هذه الدراسة التي قمت بها في الكويت عند مساعدتي لأحد طلبة علم النفس في كتابة رسالته للماجستير. في أحد المجمعات التجارية استوقفنا 50 شخصاً توالياً للمشاركة في الدراسة، في بادئ الأمور نقوم بسؤالهم خمس أسئلة حول المنتج الوطني، ويمكنهم الجواب من 1 إلى 10، هل هم راضون عن جودة تلك المنتجات وسعرها، وهل سيقررون يومياً الاكتفاء بالمنتج الوطني، وهم على استعداد لشرائها عوضاً عن المنتج الأجنبي لو فُرضت عليها المزيد من الضرائب وبالتالي يرتفع سعرها، بعد إجابتهم على تلك الأسئلة، نخوض معهم بعض الأحاديث الجانبية -أقل من خمسة دقائق- حول الغزو العراقي الغاشم وكيف قاومهم بعض أبناء هذا الوطن بكل شجاعة وقدموا الشهداء، وكيف أننا ككويتيون نعشق تراب هذا الوطن الذي يجمعنا.... وكنا نحاول بذلك إثارة روح الوطنية والأخوة فيهم. بعد ذلك نسألهم خمس أسئلة أخرى شبيهة إلى حد كبير بالأسئلة الأولى مع تغيير بعض مفرداتها وصيغة السؤال، وأظنك رجحت أن جوبتهم قد تغيرت فعلاً.... وأنت محق. قبل الحديث الجانبي كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 4.5، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 3.8، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 3.5. أما بعد الحوار الجانبي.... إليك هذه الصدمة، كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 7.6، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 8.2، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 6.1. كل هذا التغيير في ظرف خمس دقائق من الوطنية!!!!! حسناً.... إليك الصراحة، أنا شرير بعض الشيء، ولم أتوقف بالتجربة عند هذا الحد، لقد عدتها مرة أخرى مع 50 شخص آخرين، وسألتهم ذات الأسئلة ولكن هذه المرة كان حديثي الجانبي يدور حول خبث بعض التجار في الكويت وجشعهم والمبالغة بالأسعار، وكيف أفسد التجار السياسة ومجلس الأمة وكيف يختلسون الأموال ويستخدمون "الواسطة" للظفر بالمناقصات دون وجه حق... وكنت بذلك أريد إثارة الضغينة والشحناء وبعض العداوة. في الأسئلة الخمسة الأولى كانت متوسط الإجابة شبيه جداً بالمرة الأولى (4.5/ 3.9/ 3.4)، ولكن بعد هذا الحديث الجانبي وإعادة الأسئلة لك أن تتخيل الأجوبة..... كان متوسط رضاهم عن المنتج الوطني هو 2.1، وأما قرارهم بالاكتفاء بالمنتج الوطني فكان متوسط جوابهم 0.9، وأما خيار شرائهم للمنتج الوطني رغم ارتفاع سعره فكان 0.2. مضحك كيف تتلاعب بالإنسان مشاعره وكيف بحديث عاطفي جانبي ممكن أن تُـغير من قراراته وقناعاته دون وعي منه بذلك. وللأسف لم يفكر أحد من هؤلاء المئة شخص بعجلة الاقتصاد والتنمية وكيف أن تشجيع المنتج الوطني سينصب لاحقاً في مصلحة المشتري... وهذا ما يقوله علم الاقتصاد. ولنفرض الآن سيدي القارئ أنك قررت أن تكون كل قراراتك القادمة مبنية على العلم والمنطق وبعيدة كل البعد عن العواطف الجياشة والمشاعر المتأججة، هل حقاً ستلتزم بها؟ على الأرجح الجواب هو "لا" فأدمغتنا ليست بهذا المقدار من الانضباط. غالباً نحن البشر -وللأسف- عندما نقوم باتخاذ قرارات عاطفية نتمسك بها بشدة ونسعى جاهدين للحفاظ عليها والقيام بها وندافع عنها بشراسة، بينما لو اتخذنا قرارات عقلانية منطقية فإننا سنكون أقل التزاماً بها، ولا ندافع عنها بذات الشراسة التي تكون مع القرارات العاطفية، وقد لا نكملها على أحسن وجه، هذا إن أكملناها أصلاً. أقاما الدكتورين سام ماجليو – تالي رايش Sam Maglio – Taly Reich مجموعة من الدراسات والتجارب لملاحظة الناس بعد اتخاذهم للقرار، وفي إحدى التجارب طلبا من بعض المشاركين اختيار واحدة من ثلاث كاميرات رقمية بناءً على التحليل العقلاني لمجموعة من الخصائص التقنية والمميزات، وطُلب من البعض الآخر استخدام عواطفهم وشعورهم البديهي للاختيار دون إرهاق أدمغتهم بالتفكير. في اليوم التالي يقوما القائمَـين على التجربة بنقد اختيارات المشاركين واقناعهم بأنهم اتخذوا الاختيار الأسوأ، وكانت النتيجة أن من اتخذوا قرارات عاطفية شعروا بندم أقل ودافعوا عن اختيارهم بصلابة، على عكس العقلانيين شعروا بندم أكبر دون دفاع مستميت عن اختيارهم. في تجربة أخرى لهما طَـلبا من المشاركين حل الألغاز وفق العاطفة أو المنطق أيضاً، وكان الأشخاص الذين يحلوها وفق مشاعرهم ويخطؤون يحاولون مرة أخرى -أو أكثر- البحثَ عن الحل الصحيح، بينما من يحلوها وفق المنطق ثم يفشلون غالباً ما يتوقفون عند ذلك الحد. أي أن القرارات العاطفية هي التي نتحمس بشدة للقيام بها والدفاع عنها، على النقيض تماماً عندما يتعلق الأمر بالقرارات المنطقية. وهذه معضلة حقيقية... فإما قرارات عاطفية غير مستقرة ولا رزينة تتبدل مع تغير مشاعرنا، والتي -كما ترى- أنها قد تتقلب يومياً، نلتزم بها كلياً وندافع عنها، أو قرارات حكيمة وعقلية، ولكن لن نكون مخلصين جداً لها ولا مصرين عليها إلا بمقدار كبير من الانضباط النفسي وجهاد المشاعر، وهذا ليس بالأمر السهل. إن محاولة ضبط النفس والالتزام كلياً بالمنطق في قبال المشاعر يحتاج منا طاقة نفسية كبيرة وحكمة وأخلاقاً ومقداراً من الوعي، وهذا لا شك سيعود نفعه على حياتك بشكل رائع، ولكنه كفاحٌ ثقيلٌ على النفس في جُل الأوقات، في حين لا أسهل من الانجراف خلف تيار المشاعر والاستسلام كلياً للعواطف التي تقلب بنا حيث ما تشاء، ومن المرجح ألا تكون فعالة جداً لجودة حياة الإنسان بل العكس. وكثيراً ما يحلو لأدمغتنا خداعنا بأننا اليوم -ونظراً للظروف- سنتخذ قرارات عاطفية فلا طاقة نفسية تعيننا على الصراع مع الذات، على أن نتخذ القرارات المنطقية لاحقاً عندما تهدأ وتطيب الأيام، لكن الحياة -وكما ترى- للأسف لا توفر الكثير من الرفاهية والراحة ولن تجلب لنا هذه الأيام، فأي ظرف تتجاوزه سيأتي بعده آخر وهكذا دواليك.... إنها صعبة جداً وتستنزف منا الكثير من الصبر والطاقة النفسية، وستبقى كذلك على الدوام. لنعد إلى سؤالنا الأول.... "هل قلبك أم عقلك يجب أن يتخذ القرار؟" أظنك فهمت كيف تدار الأمور في دماغك، وعرفت كيف أن مشاعر تعبث بقراراتنا سواء شعرنا بذلك أم لا، فتفضل في اتخاذ الحل الأنسب لك.... وتيقن كلما زادت إرادتك في محاربة مشاعرك، كلما كانت حياتك أنجح. عن نفسي أقول كل أمانيي تتوق للقرارات العقلانية... لكن هل سأقوم بذلك دوماً، لا أظن فالإنسان أوهن من ألا تلهو به مشاعر، وأضعف من أن يقاومها كلياً... لا تبالغ في رزانتك ستبقى إنساناً.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 22 Jan, 2024
في أواخر عام 2012م قرر الشاب الأمريكي Jason Sadler أن يبيع اسمه، بأن يُغير اسم أبيه لاسم أي شركة تريد شراءه، فأنزل إعلاناً في المزاد لأقرب مشتر آت. الإعلان كان غريباً جداً وجذب انتباه بعض الشركات، وبعد مزايدات وتنافس باع Jason اسمه على شركة Headsets والتي اشترته بمبلغ 45,000 دولار ليصبح اسمه الجديد رسمياً Jason HeadsetsDotCom. الشركة ليست حمقاء لصرف هذا المبلغ الطائل على رجل يريد بيع اسمه لأن أبوه طلق أمه وأراد التخلص من اسم أبيه انتقاماً، بل كان نجاحاً تسويقياً، فالجرائد ووسائل الإعلام وبرامج التواصل وغيرها تحدثت عن الموضوع، مما جعل اسم الشركة على ألسن الناس، وبالتالي تحسنت مبيعاتها عن السنة السابقة بمبلغ 250,000 دولار. أما Jason عندما سُئل في أحد المقابلات التلفازية عن هذه الخطوة وأثرها على حياته قال إنه عندما تخلص من اسمه قد تخلص من أحزانه، فاسمه كان عذاباً نفسياً بالنسبة له. أرجو أن تتأمل معي قليلاً وتفكر بتجرد... اسم الإنسان مجرد أحرف ترمز إليه، فهل من المعقول أن لها أثراً على مشاعره أو حتى شخصيته وحياته؟ هَبني شيئاً من وقتك أوضح لك بعض الحقائق... إن أدمغتنا لا تنظر إلى أسمائنا على أنها مجرد أحرف، إنها تتعامل معها على أنها جزء من كياننا وهويتنا، ففي تجربة أقامها عالم الأعصاب السيد دنيس كارمودي Dennis Carmody وضع المشاركين في أجهزة أشعة الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ FMRI، ثم يتم مناداتهم مراراً وتكراراً بين الحينة والأخرى، وكانت النتيجة أن المشاركين كانوا إذا سمعوا أسماءهم تنشط في أدمغتهم المناطق المسؤولة عن الوعي وإدراك الذات، أي يمكنك القول إن الدماغ يدرك أن اسمك جزء منك تماماً كما هي يَدُك أو ملامح وجهك. ولك أن تصدق أن يمكن -إلى حد كبير- تخمين اسمك من خلال ملامح وجهك، فقد نشرت المجلة العلمية Journal of Personality and Social Psychology بحثاً عام 2017م يتحدث عن ارتباط الاسم بالمظهر والشخصية. حدد العلماء القائمين على تجارب البحث خمسة أسماء مختلفة، وجمعوا العديد من الصور الشخصية لأشخاص يحملون أحد تلك الأسماء الخمسة، ثم وضعوا الصور أمام المتطوعين للتجربة وطلبوا منهم أن يحددوا اسماً لكل صاحب صورة أمامهم من بين الأسماء الخمسة المتاحة لهم، ليروا هل من الممكن تمييز اسم الإنسان من مظهره فقط. وكانت النتيجة أن المشاركين اختاروا 40% من الأسماء بشكل صحيح، وتم تكرار هذه التجربة بأكثر من دولة، وكان المتطوعون الفرنسيون ينجحون بشكل أفضل في تحديد أسماء صور الفرنسيين، وكذلك أبناء الكيان الصهيوني مع صور أبناء جلدتهم بدقة تصل إلى 60%. ثم أدخل العلماء القائمين على التجربة صور مئة ألف إنسان على برنامج في الكمبيوتر، يحملون في مجملهم عشرة أسماء مختلفة، وبرمجوا خوارزمية تُـمكِّـن البرنامج من إيجاد رابط بين الاسم ومظهر الإنسان، ثم طلبوا من البرنامج أن يحدد أسماء صور أخرى عرضت له، واستطاع البرنامج أن يحدد أسماء 64% بشكل صحيح من خمسين ألف صورة أخرى عُرضت عليه، وهذه نسبة أكبر من أن تكون جيئت من قُبيل الصدفة، وهذا يؤكد -بشكل وثيق- أن هناك علاقة بين الإنسان وملامح وجهه. وأشار تراثنا الإسلامي أن هناك ارتباط بين اسم الإنسان وشخصيته، فقديماً قال الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام: "إن لكل امرئ نصيب من اسمه"، وهذا ما أثبته العلم حقاً. في دراسة مثيرة للاهتمام نُشرت عام 2007م بعنوان Moniker Maladies على مجموعة من طلبة الكليات في أمريكا، كان الطلبة الذين تبدأ أسماؤهم بـ A أو B يحصدون معدل درجات أفضل من الطلبة الذين تبدأ أسماؤهم بـC أو D، وأن الطلبة بأسماء تبدأ بـA وB كانوا مرشحين أكثر ليذهبوا إلى أفضل كليات الحقوق مقارنة ببقية الطلبة، و حرفي A و B إشارة إلى الامتياز والجيد جداً في النتيجة المدرسية. وفي ذات الدراسة حلل القائمين على التجربة ضاربي البيسبول في آخر مئة سنة في أمريكا، ووجدوا أن الضاربين الذين تبدأ أسماؤهم بحرف K هم من أفضل الضاربين، وفي البيسبول K تشير إلى الضربة الناجحة. وهذا يؤكد أن لاسمك نصيب من شخصيتك بل وحتى مهارتك وذكائك وتميزك الدراسي. وفي دراسة أجرتها جامعةOldenburg الألمانية أكدت أن هناك أسماء تثير نفير الألمان ومنها بالدرجة الأولى كيفن، بينما حظيت أسماء أخرى باستحسان وقبول واسع لدى الألمان مثل ماكسيميليان. وعندما سألوا المعلمين عن أسباب امتناعهم عن تسمية أولاده بـ"كيفن" وردت إجابات من قبل العديد منهم مؤكدين أن أغلب التلاميذ الذين يحملون هذا الاسم هم غير مهذبين وكسالى، ويشاركهم في ذلك عدد من أطباء الأسنان الذين قالوا أن كيفن يوحي بأن حامله هو شخص ذو أسنان مليئة بالتسوس. ولا تتعجب لو قلت لك أن الألمان يكرهون اسم كيفن لأنه دلالة على الولد المشاكس في فيلم Home Alone والذي كان اسمه في الفيلم كيفن.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 19 Jan, 2024
لست مجنوناً.... أو أقلاً هذا ما أستطيع ادعاءه عن نفسي، وإن كان يحلو لبعض الناس أن ينعتوني مخبولاً، فاصغ إلي واستمع مني هذه القصة والدراسات، وراقب سلامة عقلي، فإن رأيتني رزين الدماغ فتقبلها مني. قبل أربع سنوات وفي مدينة ليفربول وعلى رصيف محطة القطار، في برودة شهر يناير عندما يترجف الضمير قبل المفاصل من شدة البرد، رأيت رجلاً ذو ملامح عربية قحاح يرتدي معطفاً طويلاً ويتحدث بكل غضب وامتعاض على الهاتف بلهجته السعودية، يكيل وابلاً من الاتهامات بالحماقة وعدم المراعاة. عندما أنهى مكالمته تحولت فورة غضبه إلى لحظات من الانكسار والضعف لا يملك سيطرة على دموعه، بدا وأن الدنيا -بما رحبت- في عينيه أضيق من محطة القطار، حينها -ودون أي مقدمات- شعرت بمسؤولية على عاتقي أن أُقدم له شيئاً وأن أخض معه حرب المشاعر هذه وإن لم تكن حربي.... أحسست لوهلة أن هذا السيد هو مهمتي القادمة في الحياة. دنيت منه، ولعلها كانت إحدى لحظات حياته التي يتمنى المرء فيها أن يتمتع بعزلته عن العالم، لكنني زاحمته وقلت له بلطف وصوت هادئ "أعتقد أنك سعودي... يا سيد معطفك رائع جداً... تبدو أنيقاً حقاً، فقط أحببت قول هذا"، ورجعت خطوتين إلى الوراء وبقيت أنظر إليه... وليتك يا سيدي القارئ معي في تلك اللحظة، لرأيت شمساً انتهى كسوفها للتو، وجهه الذي كان قُبيل لحظات تتلاطم على خديه الدموع تسللت له ابتسامة مبهجة، تكاد تستحي منها الأحزان أن تجلس في قلبه. شكرني بصوت يرتجف متقطعاً تدرك عند سماعه أنه يحاول كبح سيل من العويل والبكاء لائذاً بباقية صبر وتجلد، وأخبرني أنه يمكنني أخذه كهدية إن أعجبني صدقاً، فقلت له "تبارك الرحمن!!! علاوة على أناقة هندامك هناك شخصية كريمة معها!!! لو كانت الحياة تعطينا على قدر استحقاقنا لما أظنك بكيت... لكنها وللأسف لا تعمل بهذه الطريقة، إن لكل امرئ منا حصته من المصاعب والمشاكل التي قد لا يريدها أو يتمناها لكنها ستقع حتماً رغماً عنه فهذه هي الحياة كما ترى" احتضنني حينها... ولربما ذلك كان كل ما يحتاجه في تلك اللحظة، تكللني الندم عندئذ... فمن المبتذل أن تعطي نصيحة لشخصٍ جُل ما يحتاجه "عناق". ومن ليفربول إلى مدينة يورك نادمته في القطار وبقينا نتحدث لما يزهو عن الساعتين بقليل، وبقلب صادق أشدت بشخصيته وتفكيره مثنياً عليه مادحاً إياه... لقد تمخطرت إلى حرب مشاعره بسيف من خشب يُدعى "المجاملة" بـيدَ إني انتصرت... كان يضحك معي ويمازحني بشدة، وكأنه يريد -بقسوة- الانتقام من تلك الدموع. لم أره بعدها... إلا أننا بقينا متواصلين على برامج التواصل الاجتماعي، ولقد أخبرني قبل كتابتي لهذا المقال بأسبوع أن تلك المحادثة العابرة قد غيرت مسار حياته، فلقد كان ينوي الانسحاب من برنامج الماجستير المنتسب إليه، إلا أنه أدرك أن قراره كان تحت طائلة الحزن، وتلك حتماً أتعس قرارات الإنسان وأكثرها ندماً، وها هو اليوم تخرج أخيراً بدرجة الدكتوراه من ذات الجامعة التي حظيت منها بدرجة الدكتوراه أيضاً في ليفربول. سيدي القارئ... أ تعلم أن تؤدي بالإنسان مجاملة عابرة؟ في الدماغ في النواة المتكئة وما حولها، هناك هياكل ومسارات عصبية يُسميها علماء الأعصاب بنظام المكافأة، تتحفز عندما يكسب الإنسان بعض المتعة كأن يمارس الجنس أو يأكلاً طعاماً يحبه أو يكسب شيئاً من المال، وفي دراسة عام 2008 لعالم الأعصاب الياباني Keise Izuma من جامعة كاناغاوا اليابانية، راقب فيها أدمغة عدة أشخاص من خلال أجهزة الرنين المغناطيسي الوظيفي FMRI، رأى أن "نظام المكافأة في الدماغ" يتحفز بشكل كبير عندما يتلقى المشاركون في التجربة بعض المجاملات، فإحدى المشارِكات في التجربة عندما تلقت مجاملة حول ثوبها -المليء بالورد الذي يشبه لون خديها- بدا الأمر وكأن هناك مهرجان من الدوبامين -هرمون السعادة- في تلك المسارات العصبية. يا لرقة الإنسان... تصنع به كلمة كل هذا المستوى من الفرح!! وفي دراسة من ذات الجامعة ولكن للدكتور Sho Sugawara عام 2012 جيء بـ48 بالغ، وحاول مدربون مختصون تعليمهم مهارات جديدة لم يتدربوا عليها من قبل، كالرقص والعزف على البيانو، تلقى 16 مشاركاً ثناءً ومجاملات على أداءاتهم الأولية وممارستهم المبتدئة، وفي الحصيلة كان أداء من تلقوا المجاملات مميزاً جداً وأتقنوا المهارات بشكل أفضل عن البقية ممن لم يتلقوا تلك المجاملات. وهذا لا ينعكس على المهارات الحركية فقط، بل إن المجاملات تُـحسن من أداء الشخص عموماً في أي مهارة كانت سواء عقلية أو حركية أو غيرها، ناهيك عن كونهاً تقطع شوطاً طويلاً في سعادته. في سلسلة دراسات وتجارب لعالمة النفس الاجتماعي من جامعة كورنيل السيدة فانيسا بونز Vanessa Bohns نشرتها قبل سنتين، تناولت فيها تقديم المجاملات من أكثر من زاوية... وإليك بعض تلك الدراسات: في دراستها الأولى جعلت السيدة فانيسا بعض الطلبة المشاركين في التجربة يذهبون إلى حرم الجامعة ويقدمون مجاملات لطلبة -لا تربطهم بهم أية علاقة مسبقة- حول أناقتهم وجمال لباسهم، الطلاب الذكور لزملائهم الشباب، والطالبات لزميلاتهن الفتيات، وبعد أن يخرج متلقي المدح من الجامعة يتم إعطاؤه ظرفاً فيه استطلاع رأي حول مدى سعادته بالمجاملات التي سمعها اليوم، كذلك مقدمي الإطراء يتم استطلاع رأي حول اعتقادهم بمدى سعادة غيرهم بما سمعوه منهم من مجاملة. أظهرت هذه الدراسة الاستقصائية أن مقدمي المجاملات قللوا من شأن مجاملاتهم وأنها حتماً لن تضيف الكثير لسعادة الآخرين، بينما البيانات أكدت أن متلقي المجاملة شعروا بسعادة كبيرة وارتياح أكثر بكثير مما توقعه مانح المجاملة. في الدراسة الثانية منح الطلبة المشاركون حرية المجاملة حول أي شيء وليس فقط الملابس، وكذلك قلل مقدمي المجاملة من مدى إسعادها للآخرين، بينما البيانات أكدت أن متلقي المجاملة شعروا بلذة وبهجة شديدة بما سمعوا. في الدراسة الثالثة طرحت الدكتورة سؤال "هل يتجنب الناس إعطاء المجاملات للغرباء لأنهم قلقون بشأن جعل المستمعين لها يشعرون بالحرج أو عدم الارتياح أو الريبة؟، وفي هذه الدراسة طُـلب من مقدي المجاملات التنبؤ إن كان لدى متلقي المجاملة مشاعر سلبية بسبب مجاملة الغرباء لهم، وتم عمل استطلاع رأي لمتلقي المجاملة وكذلك مانحيها، وكانت النتيجة أن مقدمي المجاملات بالغوا بشكل كبير في تقدير مدى انزعاج الآخرين منهم وعدم ارتياحهم لمجاملة الغرباء، بينما حقيقة البيانات كان غالبية متلقي المجاملة مستمتعين بما سمعوه ولم يقلقوا -إلى حد كبير- من مجاملة غريب لهم بالأخص كونها مجاملة عابرة. وفي دراسة أخرى لدكتورة علم النفس كرستينا تايلور Christina Taylor من جامعة القلب المقدس جعلت مجموعة من الأشخاص يمارسون المجاملات يومياً ويدونوا مشاعرهم في مذكراتهم اليومية، فتوصلت إلى أن تقديم المجاملة عمل إنساني لطيف يجعل الإنسان يشعر بالرضا اتجاه نفسه وهو حتماً ما سينعكس على احترامه لذاته وبالتالي سعادته ونجاحه في الحياة. إذاً سيدي القارئ الدراسات تؤكد على روعة المجاملة وانعكاسها على شعور المتلقي والمعطي على حد سواء، فلماذا يعرض الكثيرون عنها؟ كما قرأت في الدراسة الثالثة للدكتورة فانيسا مقدمي المجاملات قد يعتقدون أن مجاملة شخص غريب قد تسبب له شعوراً بعدم الارتياح أو الانزعاج، ولعلهم يتجنبون تقديمها أدباً، مع العلم أن البيانات تؤكد أن الغالبية الساحقة تفضل المجاملة -ولو من الغرباء-، وبالأخص إن كان من ذات جنس مقدم المجاملة. أما عن مجاملة الأشخاص الذين تربطنا بهم علاقة ومعرفة مسبقة فإننا نحجم عن مجاملتهم لأسباب مختلفة، فكما قرأت في الدراسة الأولى والثانية السابقتين للدكتورة فانيسا أننا نقلل من حجم تأثير المجاملة على سعادة الآخرين فنستنقص منها ولا نبديها. وفي ذات البحث للدكتورة فانيسا أشار الكثير من المشاركين في التجربة أنهم لا يُفضلون إبداء المجاملات لأنهم يظنون أن مجاملاتهم قد تكون ساذجة أو غير جيدة بما يكفي لكي يتقبلها الآخرون بصدر رحب وسعادة، وهذا ما كذبته بيانات الدراسة أيضاً. لذا سيدي القارئ إن كنت لا تستحسن تقديم المجاملات للآخرين وإبداء الثناء والمدح اللطيف لهم أرجو أن تغير هذه الدراسات شيئاً من تفكيرك... امنح نفسك الفرصة لتكون سبباً في إسعاد الآخرين ونفسك على حدٍ سواء، وكن دافعاً لتطوير أداء الآخرين ونجاحهم، ولا تتردد في تقديمها متكهناً بأنها ستزعجهم.... العلم يحثك ويدفعك بإصرار على تقديمها، فهي بلا شك ستسعدك وتسعدهم وتُحسن أداءهم، واترك تلك الاقتباسات الحمقاء التي تعج بها برامج التواصل الاجتماعي عن قبح المجاملة، كما رأيت هذا ليس كلام العلم. وإليك هذه النصائح اليسيرة لتكون مجاملتك أشد فاعلية وأقرب لقلب المتلقي. 1- اجعل مجاملتك شخصية، امتدح شيئاً فيه كطريقة تفكيره أو ذوقه وما أشبه، لا تمتدح أشياءً عامة كعرقه أو سكان دولته أو قبيلته. 2- قدم المجاملة بصدق دون وجود نية سيئة خلفها، لتكن فعلاً معجباً -ولو نسبياً- بالشيء الذي تمدحه، وتذكر أن الناس مثلاً لا تحبذ مجاملات مندوب المبيعات لأنه ربما يقول ذلك مستغفلاً غيره، وحتماً سترفض فتاة تغزل أحدهم فيها متحرشاً ولو من باب المجاملة. 3- لتكن مجاملتك في نقطة محددة، سيكون ذلك أكثر صدقاً من تكديس الثناء العام، قلوب الناس عموماً تميل لتلك المحادثة القصيرة. أما السيد ذو المعطف الدكتور نايف.... فلقد كان أنيقاً حقاً وحذق بعقلية رائعة ويستحق هذه الدرجة العلمية، ولكن عليه أن يحمد الله أنني لم أقبل مجاملته بأخذ المعطف... لكان تجمد من البرد 😜 .
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 10 Jan, 2024
"هل البشرية ما زالت بخير؟" لعله أكثر سؤال يحدث ضجيجاً في دماغي منذ فترة.... تغلي على الساحة العالمية هذه الفترة القضية الفلسطينية، بل لطالما كانت كذلك منذ النكبة أو حتى ما قبلها، ولعلنا في مناطقنا العربية نتعاطف بقلوب صادقة مع تلك المشاهد الدموية التي يندى لها الجبين ويتلظى لها القلب. رغم أن شخصيتي أبعد ما تكون عن الخوض في النقاشات الجدلية، إلا أنني منذ أيام أُقحمت في نقاشٍ مع شرذمة تبتعد أميالاً عن الإنسانية، إذ كانت ترى ما يحدث في فلسطين شأناً خارجياً لا يمت لها ولمشاعرها في شيء، ولعلك سيدي القارئ قد ابتليت بأحدهم في الفترة الماضية. ولربما تسلل إلى قلبك -كما هو الحال لدي- لماذا لا يتعاطفون كما نفعل نحن... أليسوا بشراً؟ هبني من لدنك دقائقاً أوضح لك ذلك... التعاطف يا سيدي القارئ عملية دماغية تنطوي على قدرة أن يضع الإنسان نفسه في الموقف العقلي للأشخاص الآخرين لفهم أفكارهم وعواطفهم ثم التصرف بناءً عليها، والخلايا الدماغية التي تـتيح لنا التعاطف هي "الخلايا المرآة – Mirror Neurons"، والتي تكمن وظيفتها في مراقبة ما يقوم به الآخرون، والاحتذاء بهم ومجاراتهم، سواء كان ذلك على مستوى الأفعال -كالتثاؤب، أو على مستوى المشاعر -كالحزن-. ولكن للأسف إن الدماغ البشري عموماً متعصب في عملية التعاطف منحاز كلياً وعنصري بعض الشيء... وإليك هذه التجربة. أجرى الرائع عالم الأعصاب الإيطالي أليسو أفنتاري Alessio Avenanti تجربة مثيرة، إذ أحضر مجموعة من المتطوعين الأوربيين ذوي البشرة البيضاء، ومجموعة أخرى ذو أصول أفريقية ببشرة داكنة، ثم عرض على كل المتطوعين مقطع مصور لدخول إبرة في يد بيضاء البشرة فيخرج الدم منها، ثم فيديو آخر ليد داكنة البشر يُصيبها ما أصاب الأولى، وكان الدكتور أفنتاري يراقب نشاط أدمغة جميع المتطوعين من خلال جهاز الرنين المغناطيسي الوظيفي للدماغ FMRI، ورأى أن المتطوعين يتعاطفون مع الكل، ولكن -وبفرق ملحوظ جداً جداً- كان المتطوعون الأوربيين يتعاطفون أكثر مع أشباههم في البشرة، كذلك الأفارقة يتعاطفون أكثر مع ذوي البشرة الداكنة. أي أن تعاطفنا منحاز ويميل -دون أن نشعر- لأشباهنا، سواء كان ذلك بلون البشرة أو غيرها. أما المحاضِرة اللبقة دكتورة علم النفس السويسرية السيدة تانيا سِنغر Tania Singer أجرت تجربة أخرى لتؤكد عنصرية تعاطفنا، إذ دعت لمختبرها مجموعتين من روابط التشجيع لفريقين متنافسين في دوري كرة القدم السويسري. وكانت تُري أعضاء كل رابطة مشجعاً من فريقهم -هو في الحقيقة ممثل- ومشجعاً من الفريق المنافس -ممثل أيضاً- يتعرضان لخمسة عشر صعقة كهربائية -وهمية- فيتظاهر الممثل حينها بالآلام وتعلو صيحاته، وكانت تراقب أدمغة أعضاء الرابطة من خلال أجهزة الـFMRI سالفة الذكر، وكانت توقف التجربة قليلاً بعد الصعقة الخامسة، وتسألهم عن مدى التعاطف والألم، وتكمل مشاهد الصعق. وكما تبادر إلى ذهنك الآن... بعد الصعقة الخامسة، أظهر المشجعون تعاطفاً أكثر مع آلام مشجع فريقهم فقط، بل كانوا على استعداد تام لتقديم المساعدة للمشجع وتخليصه من آلامه ولو بتوزيع الصعقات العشر المتبقية على أعضاء الرابطة أجمع بدلاً منه، والأدهى من ذلك أن شديدو التعصب الكروي كانت تنشط في أدمغتهم منطقة المكافأة في النواة المتكئة -وهي المنطقة التي تنشط عندما نربح المال أو بعد الجماع مثلاً- إذا رأوا آلام وصيحات مشجعي الفريق المنافس. ولعل هذا الشيء يُفسر لك عدم تعاطف تلك الفئة من البشر مع الفلسطينيين أو فرحهم بما يحل بهم، هم لا يرون الأمر من زاوية الانتماء التي نراهم فيها، هم لا يرونهم -بعين صادقة- أخوة لهم في الإسلام فيستوجب ذلك تعاطفهم، أو لخلل في أحكامهم وطريقة تفكيرهم لا ينظرون لهم على أنهم نظراء لهم في الخلق... بشرٌ أمثالهم يستحقون التعاطف، وبالأخص أن قضيتهم قضية إنسانية محقة بكل المقاييس القانونية والإنسانية. ولربما -ولمعايير أخرى- يرونهم يُمثلون حزباً منافساً لهم، فتسمع منهم أن هؤلاء المقاومون هم أذناب إيران أو حزب أخوان أو أو... من تلك التهم المعلبة والتصنيفات التي لا تمت للإنسانية، بل قريبة كل القرب من الأيديولوجيات السياسية النفعية التي يلهث وراءها الأتباع ممن تشربوا العبودية، وبربك!! كيف تشرح لعبدٍ شرف الحرية؟! إن هذا التشويش الفكري الذي يعشعش في أدمغتهم يسبب خللاً في أحكامهم وأفكارهم، وبالتالي تشوهاً في مشاعرهم، وانعداماً للتعاطف. دعني الآن آخذك لزاوية أخرى في التعاطف... الدماغ حين يضع نفسه في الموقف العقلي للآخرين، فإنه تلقائياً -ودون وعي منه- يقوم بمقارنة نفسه بهم، فإن كانوا أعلى منه مكانة وقوة وسلطة أو أنبل أخلاقاً وشرفاً فإن ذلك قد يضر باحترامنا لذواتنا إذ سنراها أقل من غيرها وفقاً لتلك المقارنة، لذلك فإن الدماغ يحاول قدر المستطاع عدم التعاطف معهم، حفاظاً على احترام ذاته. في دراسة لدكتور علم النفس الصيني Xiuyan Guo -وزملائه- عام 2012، كان الهدف منها اختبار درجة تعاطفنا بناءً على الوضع المالي، فأتوا بمجموعة من الأشخاص من ذوي الدخل المتوسط، وعُـرض عليهم مقاطع مصورة لأفراد في مواقف مؤلمة، كأن يتم وخز إبرة في أذن أحد، أو جرح إصبعه بسكين، وقبل ذلك يخبرون المشاركين أن الشخص الذي سيشاهدونه إما تاجراً يتلقى مبلغاً كبيراً من المال، أو أنه فقير فقرٌ مدقع، وبينما هم يشاهدون تلك المقاطع يتم تتبع أدمغتهم ونشاطها من خلال جهاز الأشعة الـFMRI. رأى الدكتور Guo أنه عندما تستثار الخلايا المرآة للتعاطف كان ينشط معها منطقة في الدماغ تُسمى Insula"" والقشرة الأمامية للدماغ " ACC "وهي المناطق التي تنشط عادة إذا ما شعرنا نحن بالألم، إي إننا نرى أن آلام الآخرين هي آلامنا حرفياً، ولكن كانت أدمغة متوسطي الدخل تتفاعل بشكل ملحوظ جداً مع الفقراء ومن دونهم بالمستوى، بينما يقل نشاطها بشكل غريب في حالة الأغنياء بل قد تكون معدومة. عدم تعاطف تلك المجموعة من ذوي الدخل المرتفع -كما يقول الدكتور Guo- هو حيلة يلجأ لها الدماغ كي لا يشعر بالمهانة عند المقارنة اللاشعورية التي تُصاحب التعاطف. ولعل تلك الحفنة من البشر التي لا تتعاطف مع مجاهدي فلسطين أو شعبها عموماً يتجنبون التعاطف كي لا يضعوا أنفسهم في تلك المقارنة، فحقير طَيع تُبع سيخسر أدنى مقارنة مع مقاومون يرمون أنفسهم أمام البنادق حباً في شهادة، مستميتين بالدفاع عن أرضهم بكل شرف... فأين الثرى من نجوم الثريا. ولندع تلك الشرذمة قليلاً وهبني أُحدثك عن التعاطف والإنسانية... بل عنك سيدي القارئ. إن تعاطفك مع الآخرين وإبداء تلك المشاعر الإنسانية هو ما يصنع منك إنساناً، فليس البشر دون شعور إلا كألواح خشبٍ مسندة، أو كما يقول الشاعر الحذق إيليا أبو ماضي: أَيقِظ شُعورَكَ بِالمَحَبَّةِ إِن غَفا *** لَولا الشُعورُ الناسُ كانوا كَالدُمى إن الحياة -سواء الوظيفية أو الاجتماعية أو غيرها- تقودك للاحتكاك بالآخرين، والبشر كائنات عاطفية شعورية، وعدم إبداء التعاطف سيقلل من جودتك على مستوى الوظيفة أو حتى على مستوى الإنسانية والتعامل، فعدم التعاطف مثلبة كبرى لمن يرغب في النجاح. في كتابها المميز حقاً " التأثير العاطفي – The Empathy Effect " تحكي الدكتورة هيلين ريس Helen Riess أنها قصدت يوماً طبيب الرعاية الأولية، وكان يجلس في مكتبه وشاشة الكمبيوتر تُغطي جزءاً من وجهه، فنظر لها ثم نظر للشاشة حيث نتائج الفحوصات وقال لها ببرودة أعصاب: "أنتِ في خطر الإصابة بمرض السكري من النوع الثاني لذلك يجب أن تخسري 25 رطلاً من وزنك". تقولين هيلين أنها امتعضت بشدة من لامبالاة الدكتور، وكلامه أورثها كآبة لمدة يوم كامل وأثار فيها شعلة غضب، وكان السبب واضحاً لها وهو عدم تعاطف الطبيب مع حالتها والخطر المحدق بها. أجرت هيلين بعدها دراسة في إحدى المستشفيات وأعطت المرضى المراجعين أوراقاً لتقييم الأطباء ومدى كفاءتهم، وتحتوي الاستمارة سؤالاً حول تعاطف الطبيب، فكانت النتيجة كلما كان الدكتور أكثر تعاطفاً مع المرضى كلما كان أكثر كفاءةً في أعينهم، وهذا ما ينعكس تماماً على مدى استجابتهم للعلاج ونصائح الطبيب، فالتعاطف يخلق بيئة حميمة وجميلة في أي عمل. ففي دراسة استقصائية شملت أفضل 160 شركة في عام 2015 في أمريكا، كان موظفي الشركات العشرة الأولى يقيمون مدراء الشركة والمشرفين أنهم أكثر تعاطفاً معهم وأعلى مودة ورحمة. إن تعاطفك يا سيدي القارئ سمة إنسانية، ترقى بروحك وجودة حياتك نحو الأفضل، ولكن للأسف قد يشوهها بعض التعصب أو العنصرية أو التحزب، لذا أرجو أن تكون هذه الكلمات اليسيرة جلت عن عينيك التشويش الذي قد يصيب مشاعرك وتعاطفك، لتكون إنساناً يتقبل الآخرين ويحنو عليهم دون شروط أو تحيز. ولعل أروع موعظة قيلت في التعاطف مع الآخرين والتحنن عليهم، هي ما أوصى به أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب أيام خلافته لوالي مصر آنذاك مالك الأشتر إذ كتب له: أشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ. دمت بمشاعر إنسانية وود.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 16 Oct, 2023
قبل أن أروي لك حكاية اليوم هبني أن أسألك هل طعامك المفضل اليوم هو ذاته طعامك المفضل قبل عشر سنوات؟ هل صديقك المقرب اليوم هو ذاته صديقك المقرب قبل عشر سنوات؟ هل ما تؤمن به من مبادئ اليوم تُشبه تماماً ما كنت تعتقد به قبل عشر سنوات؟ تذكر أجوبتك.... وإليك الحكاية. في عام 1923م وكعادته كان الروائي الشهير فرانس كافكا يسير في إحدى حدائق برلين عائداً إلى المنزل، إلا أنه هذه المرة رأى فتاة صغيرة في الحديقة تجهش بالبكاء، فلم يمتلك قلبه الرقيق إلا أن هرع إلى مساعدتها. الطفلة كانت قد أضاعت للتو دميتها في الحديقة، ولتهدئتها ساعدها كافكا أولاً بالبحث عنها في أرجاء الحديقة، لكنه لم يجدها... ولعل طفلة أخرى قد وجدتها وأخذتها، ولكنه كان أعطف من أن يواجهها بالحقيقة. فابتكر كافكا كذبة لمواساتها، وأخبرها أنها يجب ألا تقلق فلعل الدمية ذهبت في رحلة ما، ولا شك أنها سترسل لها رسالة تُخبرها عن حالها، وقال لها أنه ساعي بريد وسيتكفل بإحضار الرسالة، لذا واعد الطفلة في اليوم التالي في نفس التوقيت والمكان كي يُسلمها رسالةً من الدمية. كافكا الكاتب المبدع بدأ بكتابة الرسائل على لسان الدمية، وعلى موعده في اليوم التالي سَـلَّـم رسالةً إلى الفتاة مكتوب فيها: "من فضلك لا تحزني علي، لقد ذهبت في رحلة لرؤية العالم، سأكتب لك عن مغامراتي". ولمدة ثلاثة أسابيع كان كافكا يكتب رسائل الدمية يومياً ويسلمها إلى الطفلة أثناء عودته إلى المنزل مروراً بالحديقة، واصفاً فيها مغامراتها وما تمر به من مواقف، فكانت الطفلة تستمتع بقراءتها بشغف لمعرفة ما في العالم من مغامرات. بعد ذلك اشترى كافكا دمية جديدة وأهداها إلى الطفلة على أنها دميتها المسافرة، نظرت لها الفتاة مستغربة... "هذه لا تشبه دميتي"، فأهداها كافكا رسالة مكتوب فيها "لقد غيرتني رحلاتي". احتضنت الطفلةُ الدميةَ وعادت بها إلى المنزل مسرورة.... وتوفي كافكا بعد ذلك الموقف بسنة تقريباً بعمر يناهز الـ40 عاماً. كبرت الطفلة... وبعد سنوات من ذلك الموقف وعندما كانت تُقلب دمية الطفولة المسافرة اكتشفت أن هناك رسالة محشوة في شق بسيط في جسد الدمية لم تُلاحظه من قبل، وكان كافكا قد كتب فيها "كل ما تحبه ستخسره في النهاية، ولكن سيعود الحب بشكل مختلف في آخر المطاف". سيدي القارئ... إلى أي مدى غيرتك رحلاتك في الحياة؟ هل ما زلت تشبه نفسك التي كانت قبل عشر سنوات؟ أظنها قد غيرت بعضاً منك ولم تعد ذلك الشخص... ما أود أتحدث به معك اليوم سيدي القارئ هو أننا في كل مرحلة عمرية من حياتنا نتخذ قرارات تؤثر على حاضر الشخص الذي سنكون عليه في المستقبل، ويحدث أحياناً أننا نندم على بعض قراراتنا التي اتخذناها سابقاً ونتحمل تبعاتها، كأن تقضي نسخة أحدهم الثلاثينية بعض أيامها في المحاكم للطلاق من زيجة قررتها نسخته العشرينية، أو كبالغ يدفع أموالاً لإزالة وَشمٍ وضعته نسخته أيام المراهقة... وهلم جراً. ولكن مهلاً.... لماذا؟! أ لم يكن لدينا عقل حينها؟! أ لسنا ذات الشخص مع اختلاف الأعمار؟ الإجابة بكل بساطة أننا كدمية كافكا... لقد غيرتنا رحلات الحياة على مر الأيام، وليس كل ما كان يُناسبك بالأمس قد ينفعك لغدٍ، ولعل شيئاً مما كنت مقتنعاً به البارحة سترفضه اليوم. إن الحياة تقوم بتغييرنا باستمرار دون أن نُلاحظ، لذلك غالباً ما نكون غير قادرين على التنبؤ بمدى التغير الذي سيطرأ على سمات شخصياتنا في المستقبل، فنقرر لها ما ستعيشه في الغد وفق سماتنا اليوم... وهنا تكمن المشكلة، فنندم على بعض فعلاتنا القديمة لأن ما أصبحنا عليه اليوم لا يتفق بالرأي كلياً مع ما كنا عليه في الماضي. وللتوضيح أكثر... إليك هذه الدراسة. نشر علماء النفس -دانيال جلبرت، تيموثي ويلسون، جوردي كويدباخ- دراسة بعنوان "وهم نهاية التاريخ"، أجروها على 7 آلاف شخص تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 68 عام. طلبوا من نصف المشتركين في الدراسة أن يُسجلوا نظرتهم الحالية لطباعهم الشخصية، وقيمهم التي يؤمنون بها، والأشياء التي يفضلوها، وكيف كانت هذه الأشياء قبل عشر سنوات. وطلبوا من النصف الآخر أن يسجلوا أيضاً نظرتهم الحالية لطباعهم الشخصية، وقيمهم التي يؤمنون بها، والأشياء التي يفضلوها، ولكن طُـلب منهم أن يتوقعوا ما سيبدون عليه بعد عشر سنوات من الآن. بناء على إجابة كل المشتركين في الدراسة حسب الباحثون الثلاثة نسبة ومستوى التغير لكل فئة عمرية خلال عشر سنوات، فقارنوا من هم في 18 من العمر مع من هم في الـ28، والـ28 مع الـ38 .... وهلم جراً. لاحظ الباحثون أن المشتركون الأصغر سناً يتغيرون أكثر على هذه الأصعدة الثلاثة، أما بعد الخامسة والخمسين فالتغير يصبح أبطأ فأبطأ لكنه لا يتوقف. بَـيـدَ أنَّ النقطة الأهم في الدراسة هي إن جميع المشتركين الذين طُلب منهم أن يتوقعوا ما سيبدون عليه في المستقبل، كانوا يتوقعون تغيراً طفيفاً جداً في طباعهم وقيمهم وما يفضلونه، بينما الواقع -مقارنة بنسبة من سجلوا تغيرهم في السنوات العشر السابقة- أن الحياة تُغير الناس أكثر مما يظنون. إننا كبشر نعتقد متوهمين أننا قد وصلنا إلى نهاية تاريخنا في النضج، فننظر لأنفسنا على أنها الآن بأفضل نسخة منا ولن تتغير كثيراً في المستقبل على ما نحن عليه الآن. انظر إلى هذا...
28 Aug, 2023
بروكسل عاصمة بلجيكا الساحرة المليئة بالحياة والفن.... لو كُتب لك أن تزورها وسألت عمنا قوقل عن أبرز معالمها السياحية سيدلك على هذه النافورة التي تراها في الصورة. نعم إنها نافورة لطفل يتبول -أجلك الله- لست واهماً هي كما ترى... وإليك حكايته. يروي أهل بروكسل أنه في أواخر القرن التاسع عشر اندلع حريق ضخم بين بيوتاتها الخشبية، وبدأ يلتهم البيت تلو الآخر تباعاً، والناس تركض فراراً حفاظاً على أرواحها. لم يُبادر أي شخص ليُطفأ الحريق، وكانت الفكرة التي تسود الموقف "اهرب... حافظ على روحك". وبين كل الفارين ركض طفل لم يتخطى عامه الخامس مبادراً كي يطفئ الحريق، وببراءة الأطفال لم يحمل معه أي ماء ليقلل لهيب النار، بل اكتفى بماء المثانة. وقف على حافة الحريق وتبول على النار كي تنطفئ، كانت مبادرته المطرقة التي كسرت جمود الناس وفتت خوفهم، وجعلتهم يتخذون الخطوة تلو الخطوة لإطفاء الحريق عوض الفرار. وتكريماً من أهالي بروكسل لشجاعة هذا الطفل صنعوا له هذا التمثال والذي أصبح اليوم شعاراً للمدينة. وما أود الحديث عنه في هذه الأحرف اليسيرة -سيدي القارئ- هو المبادرة.... لماذا لا يُبادر الناس نحو حل مشاكلهم أو رفع جودة حياتهم؟ كما ترى الحياة ليست عالماً وردياً بل سلسلة من الصعود والهبوط... لحظات من السعادة والنجاح وأخرى من الحزن والفشل، ومع ذلك في بعض الأحيان تبدو الحياة رتيبة، ونشعر بالضجر من روتيننا المعتاد، وهذا الشعور يتولد بسبب الـملل ولأننا لم نتخذ أي خطوة لتحقيق أهداف أكبر والتي تعني حتماً مخاطر أكبر وبعض الإثارة، وهي كفيلة بكسر ذلك الجمود. إلا أن أي مبادرة لتحقيق ذلك وحل المشاكل أو رفع جودة الحياة تبدو للوهلة الأولى مهمة ضخمة، وذلك لأسباب عدة، ولكي أكون خفيفاً عليك سأختار منهم اثنين فقط، والذي يمكن اختصارهما بمقولة ربيب الله ورسوله محمد صلى الله عليه وآله: "أعدى عدوِّك نفسك التي بين جنبيك". - التغيير الدرامي سيدي القارئ اعذر قلة حيائي منك... لكني مضطر أن أقول لك أن الطبيعة البشرية حمقاء أحياناً، إذ تميل لتحقيق نتائج كبيرة في وقت قصير. الحياة وللأسف ليست فيلماً درامياً يولد فيه البطل فقيراً بأول الفيلم لينتصر ويحقق ثورة ويتزوج حبيبته بعد ساعة ونصف من العرض.... الحياة صعبة، بل صعبة جداً وهذا لا يحدث فيها، ورغم ذلك تميل أنفسنا إليه. فلو سألت صاحب الوزن الزائد عن خطته، سيقول لك أنه سيشترك بالنادي ويترك شرب الغازيات ويلتزم بنظام صحي يوصله لهدف خلال ثلاثة أشهر مثلاً. (ثلاثة أشهر مين يا روح أمك 😒!!) لو تغاضيت عن هُرائه في التوقيت وسألته متى ستبدأ؟ سيقول لك بعد برهة حتى أرتب وقتي وأنظم أمري، وكأن الحياة ستهدأ عما قريب فعلاً!! التسويف والتثاقل هنا أمر طبيعي فأنت عندما تحدد هدفاً كبيراً في وقت قصير تضع ضغطاً كبيراً عليك، ونفسك هذه (أم كرش😜) لم تعتد القتال بعد وليست مهيئة لمثل هذه الضغوط، ولو تحليت بالعزيمة وبدأت بأول خطوة سرعان ما ستتراجع عن البقية. هذا قانون المشاعر... إنها فيزياء النفوس التي لا مفر منها، وطبق الآن هذا المثال على أي مشكلة قمت بتسويفها أو خطوة تأجلها من شأنها رفع جودة حياتك. والقانون البديل الذي يُقربك نحو تحقيق الهدف هو "قفزة واحدة صعبة... لكن مائة خطوة صغيرة أمر قابل للتنفيذ". وضع هدف كبير خطة تحتم على نفسها الفشل، فالصحيح تقسيم ذلك الهدف إلى عدة مطامح صغيرة يسهل القيام بها، فترنو إلى تحقيقها الواحدة تلو الأخرى، وهذا أولاً يُبقيك متحمساً، فالشعور بالنصر وقود لبقية الأحاسيس الجيدة ومؤازر لعزيمتك. وثانياً يجعلك تُقيِّم الظروف بعد كل طموح ويمنح هدفك المرونة التي تحول بينك وبين الفشل واليأس والإصرار على أهداف غير واقعية. وثالثاً التعثر والهبوط في الحياة أمر لا بُـدَّ منه، وكي لا تصدمك الحياة بعثراتها حاول أن تفكر وتتنبأ بمكان وتوقيت حدوثها، والخطوات الصغيرة لا تُرهق الدماغ، إذ يسهل عليك أن تحيط بكل جوانبها وبالتالي تنقذ نفسك من الفشل، وهذا يجعلك تثق بدماغك شيئاً ما، وبالتالي تحافظ مبادرتك نحو النجاح. - الخوف / اليأس انظر للطفل -والذي يخاف بطبيعة الحال أن يخسر لعبته- يرمي بها بعيداً أو يضعها في أحد زوايا البيت، فيجزع أو يصرخ ثم يسعى جاهداً لاستعادتها، ويكرر ذلك باستمرار. أو ترى الطفل الذي يحب أمه ويخاف فقدانها يُتيه بنفسه عنها في الزحام أو السوق، أو يركض مبتعداً عنها، ليبصر عن عمد أين سيؤول به الأمر إن فقد أحب الخلق إليه. وكما يقول عالم النفس سيغموند فرويد معقباً على هاذين التصرفين وغيرهم "إن طبيعة الإنسان تميل إلى تكرار تجاربه المؤلمة من حيث يدرك أو لا، بل إن الإنسان من حيث لا يشعر يخطط لتكرار الوقوع بمخاوفه". وما يقوده لذلك هو حس فطري يدفعه لتجاوز الشعور بالهزيمة والخوف الذي حُظي بهما في تجربته الأولى وتجاربه السابقة التي فشل بها، فيبقى دماغه يستدرجه -دون أن يشعر- إلى إعادة التجارب المؤلمة المخيفة لعله يتخطاها في المرة القادمة وينجح بها. لكن الغباء هو تكرار نفس الخطوات ثم انتظار نتيجة مختلفة، وهذا ما يقوم به الدماغ حرفياً، فأنت تحاول أن تكسر خوفك من الفشل مراراً دون تعلم استراتيجية جديدة. الخوف من الفشل واليأس بسبب عدم تجاوز المشاكل أو حلها شعور مؤلم تقودنا أدمغتنا -دون وعي منا- إلى تكرارهما، على أمل أن نتخطاهما في المرة القادمة، وهذا لن يحدث دون تعلم مهارات جديدة واستراتيجيات أخرى غير التي قمنا بها سابقاً، والخطوات الصغيرة هي حتماً أفضل استراتيجية لذلك. ونصيحتي إليك.... اكتشف قصتك. حلل مخاوفك وآلامك ومشاعرك الثقيلة... ما أسبابها ومن أي تنبع؟ أهو خوف من الفشل أم محاولة التغلب على إحباط الناس لك؟ أم يأس بسبب العجز؟ أم تجنب لوم الناس على التعثر أو نقدهم إياك ؟ أو أو أو..... تأمل نفسك واعترف بنقاط ضعفك بكل بسالة.... فالاعتراف بالخوفِ والضعفِ شجاعةٌ ونجاح. نعم دائماً ما ستبدو المبادرة لحل المشاكل ورفع جودة الحياة مهمة شاقة كإطفاء حريق ضخم ببولة -أجلك الله-، لكن خلق دافع صحيح وتقسيم القفزة الكبيرة لخطوات صغيرة طريق لإطفاء حريق ضخم. النجاح ورفع جودة الحياة لا تتطلب ضغطاً نفسياً مهولاً فأدمغتنا غير مهيئة لذلك، بل تحتاج عقلاً واعياً يتعلم مهارات جديدة للنجاح واستراتيجيات واقعية تتناسب مع طبيعتنا البشرية. كل خطوة صغيرة ستصنع فيك شخصية مقاتلة، تقودك لتحمل مسؤولية نجاحك عوضاً عن التبرير التسويف، لتبادر في تحسين حياتك وحل مشاكلها. أرجوك بادر بأي خطوة. سيدي القارئ... يروي أهل بروكسل العديد من القصص حول الطفل الذي تبول "مانكين بيس"، إلا إني اخترت التي فيها Suspense والتي تتوافق مع أريد ايصاله لك. عاوزين ناكل عيش ونكتب مقالات يا بيه 😜 .
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 15 Feb, 2023
في عام 1977م قاد الكابتن جاكوب فان زانتين رحلة للخطوط الهولندية KLM، من مطار أمستردام إلى مطار لاس بالماس في إسبانيا. إلا أنه أثناء الرحلة فَـجَّـرَ إرهابيون قنبلة في مطار الوصول، فاضطر جاكوب إلى النزول في مطار تينيريفي القريب منه، تمهيداً للعودة بالطائرة والركاب إلى أمستردام. السيد جاكوب كان المشرف على تدريب طيارين شركة KLM، ورئيس برنامج الأمن والسلامة، وقد اختير ليكون الوجه الإعلاني للشركة في إعلانها التفاخري بالتزامهم في أوقات الطيران والذي يقول "الأشخاص الذين يجعلون الالتزام بالمواعيد ممكناً"، وكان أحد أهم أعمدة الشركة.
بواسطة 288e1451-5677-4d83-8385-71f24185e9e0 04 Jan, 2023
أبطأ من فند أ تظن أنك لا تُعاني من مشكلة ؟! كانت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص تمتلك عبداً شجي الصوت عَذب الغناء يُسمى "فند"، فقالت له ذات يوم اقبس لنا من الجيران ناراً واعجل علينا كي نطبخ الطعام، فقال لها على أمرك مولاتي، وخرج يتسكع في الأحياء باحثاً عن نار، وكان يمشي ويغني طرباناً، فرأى قافلة تريد السفر فوقف أمامها متطفلاً واستمر في غنائه. استحسن أهل القافلة غناءه وأثنوا عليه، فقال لهم إلى أين تريدون السفر؟، فقالوا إلى مصر.، فقال أ تأخذوني معكم أُغني لكم وأخدمكم؟، فرحبوا به واستأنسوا بالفكرة. فسافر معهم وقضى عاماً كاملاً في مصر، وبعد أن عاد إلى المدينة ذهب مباشرة إلى بيت أحد الجيران واقتبس ناراً، وحملها وجاءً مهرولاً إلى بيت مولاته عائشة، ولما دخل الدار مسرعاً تعثر وأسقط النار بالقرب منها فانطفأت، فالتفت إليها وقال: بئساً والله للعجلة. (أي والله يا فند يستعجلون الواحد ويخلونه يتعثر... خو نطرو سنه سنتين اشفيكم مستعجلين على بطونكم؟! 😜) فقالت له عائشة بنت سعد: بَـعَثـتُـكَ قابِـساً فَـلَـبِثـتَ حَولاً * متى يَـأتي غِـياثُـكَ يا مُـغيـثُ وأصبح العرب يقولون مثلاً (أبطأ من فند) على الذي يتأخر في قضاء الحاجة. "فند" لم يفكر في نقاش خطئه والتأخر لمدة سنة دون إذن مولاته، ولم يرى أن تصرفه كان فيه حماقة وغباء وأنه عبد أبق، بل وكأنه بالتفاته إليها يُعاتبها على استعجالها له منزهاً نفسه عن الخطأ. "فند" نموذج حاد لحالة يمر فيها كل البشر بدرجات متفاوتة... نحن البشر عموماً ننكر في كثير من الأحيان وجود مشكلة في شخصياتنا أو سلوكنا، ولحسن حظك سيدي القارئ أنني هنا اليوم لأُنكِّد عليك وأوضح لك ذلك. 😜 الحياة كما ترى ليست عالماً وردياً، فنحن نمر بمواقف كثيرة تُخلِّف فينا مشاعر مؤلمة، وأحياناً تكون المشاعر أقسى من أن تـتحملها أدمغتنا، وغالباً ما يكون ذلك عندما يحدث لك تَغيُّر مفاجئ أو كبير في حياتك، كتعرضك لخسارة كبيرة أو انفصال عاطفي لعلاقة تخللتها أيام رائعة. الدماغ عندما يُكابد تلك المشاعر المؤلمة يحاول أن يخفف عن نفسه وطأتها، فيلجئ إلى خداع نفسه ليتجنب مشاعر القلق والألم العاطفي أو ليرى نفسه أنه مقبول من المجتمع، أو كي لا يرى نفسه ضعيفاً بالأخص إن كان يؤمن أنه شخص قوي جداً. ويخادع الدماغ نفسه عبر الكثير من الأفكار التي تُسمى في علم النفس بـ"الآليات الدفاعية" وأحد تلك الآليات تُسمى "الإنكار" وهي موضع نقاشنا اليوم.... إن للإنكار وجوهاً عدة، فتارة ينكر الإنسان بكل بساطة وجود مشكلة ما، أو لا يعتقد بأنه مخطئ في تصرفاته، فمثلاً ينكر الشخص الكسول أن جزءاً كبيراً من مآسي حياته ترتَّبت عليه بسبب كسله، بل ينظر للحياة على أنها غير عادلة وسيئة. وأحياناً يكون الإنكار بالتقليل من حجم المشكلة، فالشخص سريع الانفعال بسبب مشاعره -أو سمه إن شئت حساساً- لا يرى أن لهذه الصفة أثر بالغ على الانتكاسات العاطفية التي يمر فيها ببعض علاقاته الاجتماعية، بل يرجعها لتصرفات الآخرين أو سوء التفاهم وما أشبه. وأخيراً قد يرى الإنسان بعينيه المشكلة ويعلم الصفة السيئة التي تـتخلله لكنه ينكر حاجته لتغييرها، أو أن الأمر أكبر من أن يقوم هو بتغييره، أو يتقاعس عن حلها لثقل ما ستخلفه المواجهة من مشاعر سلبية، كشخصٍ يتخذ الكثير من القرارات السيئة في حياته ويعلم أن هناك خطئاً في شخصيته وطريقة تفكيره، بَـيـدَ أنَّـه لا يحاول أصلاً تطوير شخصيته أو استصلاح عثراتها، سواء بمساعدة معالج نفسي أو بتفكر عميق. وإن أردت أن تسأل نفسك هل تقوم بالإنكار في حياتك أم لا... فالجواب نعم أنت حتماً تقوم بذلك ولكن يتفاوت البشر في حجم ذلك، فمنهم من مثل "فند" ومنهم من أقل من ذلك، ففي الدماغ منطقتين تُسمى (DACC - Left SMST) مسؤولتين عن ذلك، أي أن الإنكار جزء أصيل من أدمغتنا. وفي دراسة شرح علماء النفس لـ600 شخص انحرافات التفكير وأن الإنسان قد ينكر وجود مشاكل في حياته أو سلوكه فيرى نفسه أجمل مما هي عليه في الواقع، فرأى 85% منهم أنهم بعيدون عن هذا ولم يقعوا بذلك من قبل، ومن أولئك الـ600 فقط شخصٌ واحد اقتنع وقال نعم إنه سقط في ذلك. فلا تكن سيدي القارئ مثلهم بل كان ذلك الواحد أرجوك... بنفسي أنت. والآن أرجو أن تـتجول في ذاكرتك وتجيبني على بعض الأسئلة. هل شعرت بعد أزمة عاطفية أو أحد مشاكل الحياة أنك عالق أو ضائع لا تدري إلى أين يجب عليك المسير أو ماذا تريد من نفسك؟ هل ترفض الحديث عن المشكلة التي واجهتك مع أشخاص قريبون منك؟ هل تحاول أن تشغل نفسك بالكثير من العمل كي لا تفكر بالمعضلات التي تمر بها؟ هل سألك أحدهم عن شعورك فأجبته أنك بخير حتى دون التفكير في الأمر؟ حل تحاول أن تتجنب المشاعر الكبيرة كالحب أو الشغف والحماس؟ هل مررت بأشياء سلبية متكررة كخوض علاقات ضارة مراراً أو المعاناة من خسائر عدة في ذات المجال؟ هل استخدمت عبارات من نوع "جميع الأشخاص (تذكر صفة) هم (تذكر سلبية) ؟ مثلاً (جميع الرجال خونة) (جميع النساء مزاجيات) (جميع المدراء متعجرفين) ( الأمهات لا يرضيهن شيء)... إلخ حسناً إن أجبت عن سؤالين وأكثر بنعم... فأنت تُعاني من إنكار يستوجب عليك فعلاً إعادة التفكير بعمق في اصلاح الحياة أو طلب المساعدة في ذلك، وأعني من مختص أو قراءة كتب علمية نفسية وليس من نصائح خالتك. ولعلك سيدي تقول أنك الآن بخير وحتى إن كنت تمارس الإنكار فذلك لم يُميتك... وذلك صحيح الإنكار لن يقتلك حتماً ولكن سيربك شعورك في الكثير من الأحيان وسيقلل جودة حياتك، وسيجعلك تشعر بالكثير من الخوف أو الحزن مرارا وتكراراً دون توقف، فمن يخاف الموت سيموت في الميدان مئة مرة من القلق قبل أن يموت حقاً. البشر تخاف من مواجهة المشكلة لذلك تلجأ لآليات الدفاع، ولكن مخاوفك لن تبتعد عنك وإن حاولت تجنبها، فما إن يخطر أمام عينيك ما يذكرك بمشاكلك، سينقض عليك الخوف ومشاعر سلبية جمة لا تتمنى أن تشعر بها... لذلك ورحمة بنفسك يجب عليك أن تتخلص من الإنكار... لذا أرجوك اعرني انتباهك. في دراسة أقيمت في جامعة أوهايو لعالما النفس روي ليويك و ليا بولين وجدا أن من الأسهل على الناس أن يقولوا "أنا آسف لأنني آذيتك" بدلاً من قول "أنت على حق لقد ارتكبت بحقك خطأ". أي أن البشر يحاولون تصحيح الوضع عاطفياً دون تحمل المسؤولية التامة للخطأ والاعتراف صراحة به. لذا فأول نصيحة ممكن أن أسيدها لك هي... تحمل المسؤولية. غالباً ما يكون الإنكار لإلقاء اللوم على شيء خارج أنفسنا، أو أن المشكلة ليست مشكلة حقاً أو إنها مشكلة لكنها ليست نهاية الحياة، فنتنزه عن مسؤوليتنا ودورنا في ظروفنا.. وذلك سخافة... والاعتراف بالمشكلة أول الحل. أضف لذلك لكي تتحمل المزيد من المسؤولية يجب أن تقبل أنه لا يمكنك التحكم في الطريقة التي يتصرف بها الآخرون، لكن يمكنك التحكم في الطريقة التي تتفاعل بها كردة فعل على تصرفهم، يمكنك التحكم في عواطفك... وهذا هو الفرق بين أولئك الذين يتركون الحياة تحدث لهم وبين الذين يجعلون الحياة حدثاً يُعاش. ونصيحتي الثانية لك هي كن أكثر وعياً بنفسك. آليات الدفاع هي وسيلة لتجنب مشاعرك الحقيقية، تميل إلى الظهور كوسيلة لحماية أنفسنا عندما نشعر بالضعف أو القلق أو التوتر، لذا كان واعياً أنك تستخدمها، وحاول أن تسمح لتلك المشاعر المكسورة فيك للتعبير عن نفسها... استمع لحزنك وخوفك وقلقك بإنصات، ولا تسمح للّاوعي أن يتغلب عليك ويخرسها. سيدي هل تتذكر تلك المنطقتين في الدماغ المسؤولتين عن الإنكار (DACC - Left SMST) ؟ نعم هما يمارسان الإنكار لدى عامة الناس، إلا أنهما لا يمارسان نشاطهما المعتاد لمرضى الاكتئاب، ففي دراسة قام بها عالم الأعصاب الياباني ماكيكو يامادا Makiko Yamada وزملاء له عام 2013م وجد أن كِلا المنطقتين لا تمارسان نشاطهما عندما يكابد المرء الاكتاب، وكلما زاد استماع الفرد لحزنه وخوفه وقلقه كلما قل أداء المنطقتين. ولا أدعوك هنا للدخول بحالة اكتئاب كي تحل مشاكلك، فالشخص إن استمع لحزنه ثم تعامل مع توتره ومشاكله وبدأ بتغيير حياته فإن ذلك سيمنحه شعوراً بالرضا، وبالتالي تتجه حياته نحو الأفضل، ويكون الحزن عصياً عليه. وأضيف أيضاً... أحياناً ولِـما نمر به من ضغوط نفسية قد يتعذر على أدمغتنا الوصول للوعي بذاتها، لذا من الرائع قضاء بعض الوقت مع أشخاص مقربون منك يفكرون بشكل مختلف عنك، اسمح لهم بنقض تفكيرك في مختلف القضايا وكن على استعداد لتحطيم ما لا يتناسب مع نسختك من الواقع. وثالثاً أقول... اكسر الأنماط. نحن البشر يا سيدي القارئ مخلوقون من العادة، وكلنا نتعثر في الأنماط المتكررة، لذا فالدماغ إن تعلم الإنكار فإنه سيمتهنه إلى ما لا نهاية، وبمجرد أن تتحمل المسؤولية عن عواطفك، فأنت على استعداد لكسر روتين أفكارك السلبية والتوقف عن استخدام آليات الدفاع، وستتلذذ بشعور الشجاعة في مواجهة المشكلة بعد أول انتصار لك. ولكن يا سيدي أرجو أن لا تنصدم أن عندما ترى أن الأمر صعب بعض الشيء في البداية، إنني أؤكد لك أنك لن تتخلص من الإنكار إلا بتحمل شقاق المشاعر السلبية وآلامها، وبشيء غير يسير من التفكير... إلا أن نتائجه تستحق العناء، فحالة السلام النفسي العاطفي والفكري الذي ستمر بها بعده جنة أُعدت للكادحين. وأخيراً سيدي القارئ... ولأننا كلنا نعاني من الإنكار -بدرجات متفاوتة- فإني أنصحك -إن أجبت بنعم على بعض الأسئلة سابقة الذكر- أن تقرأ كتاب "كيف تُسيطر على قلقك" لعالم النفس آلبرت ألس (مكتبة جرير)، وكتابه الآخر والأهم "كيف تجعل حياتك سعيدة" والذي سأفوره لك هنا... فتفضل في تحميله.
المزيد من المقالات
Share by: