أرجوك ... كفاك جلداً

مرحباً سيدي القارئ ..
لنفرض أنك ارتكبت خطئاً تسبب في انفصالك عن شريك حياتك ... ماذا ستقول لنفسك حينها؟ ما هي الألفاظ التي ستوجهها لنفسك بعد هذا التصرف ؟
سنعود للجواب لاحقاً . (أنت قاعد تجاوب ولا قام تصرفني ؟ 😒)
في عام 1882م ولدت أيقونة الأدب في القرن العشرين الكاتبة أدالاين فيرجينيا وولف ، والتي واجهت في طفولتها العديد من العراقيل التي صَعَّـبت عليها تحقيق حلمها بأن تُصبح كاتبة ، إلا أنها وضعت نفسها أمام خيارين إما النجاح أو النجاح ... وقد حققت بالفعل ذلك .
فمثلاً الفتيات في حينها لم يكن يُسمح لهن بدخول المدارس ، لذا تعلمت أدالاين في منزلها الكتابة والقراءة وفنون الأدب ، ثم إنها تحدت المجتمع بأكمله وشاركت في الحركات الإصلاحية التي تدعو لتعلم المرأة ... لم ترضى من نفسها إلا أن تكون كاتبة مميزة .
كانت أدالاين تقول : "إن النساء لكي يكتبن بحاجة إلى دخل ماديّ خاص بهن، وإلى غرفة مستقلّة ينعزلن فيها للكتابة" .
وهذا ما سلبته ظروف الحياة منها عندما قُصف منزلها أثناء الحرب العالمية الثانية ، فتدمرت غرفتها التي تكتب فيها ، وقد ظنت في بادئ الأمر أنها مجرد أيام وستعود الأمور لطبيعتها الهادية ، إلا أن الحياة خيبت أملها ، وكانت الحرب تزداد سعيراً وكل ما حولها أصبح خراباً ، ولم تتقبل أدالاين هذا الواقع المرير فدخلت بحالة اكتئاب شديدة .
وإبان أيام الحرب كتبت أدالاين سيرة ذاتية لصديقها الفنان روجر فراي ، إلا أن الأوساط الأدبية استقبلت كتابتها استقبالاً بارداً لا يليق بفرجينيا وولف ، فهي سيدة الأدب بلا منازع ، فازدادت كآبتها بُؤساً ، وبدأت بِلَومِ نفسها واتهمت قدرتها على الكتابة بالضعف وبدأت تشعر أنها لم تعد بليغة كما كانت ... وهذا حتماً غير صحيح ، فالعالم آنذاك كان يخوض أغمار الحرب العالمية الثانية ، ولا أظن أن هناك من سيحتفل بالأدب في وسط ملايين القتلى الذين سُفكت أرواحهم .
إلا أن فيرجينيا كانت تقلل من قيمة إبداعها وتجلد نفسها دون رحمة ... فهي امرأة لا ترضى عن النجاح بدلاً .
وحتى على الصعيد الأسري كانت تكرر ذلك ، فأدالاين مثلها مثل أي زوجة في العالم ، كانت تحظى بأيام جميلة وأخرى غير ذلك ، إلا أنها كانت ترى أنها السبب في تعاسة زوجها لأنه كان يرعاها أثناء اكتئابها ، وأنه حتماً سيعيش حياة أجمل لو لم يكن معها .
لم ترضى من نفسها إلا أن تكون حياتها الزوجية جميلة فقط ... لذا قررت وبعد كل هذا اللوم لنفسها أن تنتحر وتضع حداً لحياتها .
فكتبت رسالة لزوجها قالت فيها : عزيزي، أنا على يقين بأنني سأجن فقدت قدرتي على التركيز ، لذا سأفعل ما أراه مناسبا ، لست قادرة على المقاومة بعد الآن وأعلم أنني أفسد حياتك وبدوني ستحظى بحياة أفضل أنا متأكدة من ذلك، أترى؟ لا أستطيع حتى أن أكتب هذه الرسالة بشكل جيد ، لا أستطيع أن أقرأ .
وبعد الرسالة ارتدت أدالاين معطفها وملأته بالحجارة وتوجهت لبحيرة بجانب منزلها وأغرقت نفسها .
جلدت نفسها حتى تكدرت تصرفاتها وقادها ذلك إلى الهلاك ... وهذا ما أريد أن أحدثك عنه اليوم سيدي القارئ.
لن أزاحم عقلك بكثرة الدراسات ... أريد فقط أن أخاطب قلبك بكل حب كي لا تقسو على نفسك مكتئباً ، لذا أرجوك .. أرجوك أعرني شيئاً من انتباهك . ( يا عمري الي هاد الدنيا وقاعد يقرا .... يختي الي يستحوووون😜 )
الهدف الأساسي لفطرة الإنسان هو أن يعيش بسعادة ورضا قدر الإمكان ، لذا تراه عندما يمر بأزمة - سواء نفسية أو جسدية - يسعى إلى التقليل منها والتغلب عليها ، ولكن - وبكل أسف - فللإنسان أيضاً ميول فطرية تدفعه بشكل غير مباشر نحو الكآبة والإحباط .
خُذ التسويف مثلاً ... الإنسان يعلم تماماً أن في إنجاز العمل مصلحته وسعادته ، إلا إنه يُسَوِّف ذلك عمداً مع علمه بأنه قد يترتب عليه قلق وتوتر وخسارة - كما بينت في المقال السابق - .
التسويف مجرد مثال من أمثلة عدة يقوم الإنسان بإلحاق الضرر بنفسه من خلالها دون أن يشعر ، بل يضع لنفسه الأعذار والحجج الواهية لتأكيد صحتها ، ولكنه أيضاً على الجانب الآخر يسعى لكسب المزيد من المتعة والسعادة ... أي أن الإنسان خليط مشترك بين الأفعال البناءة والهدامة على حد سواء .
وغالباً ما تنبع الأفعال الهدامة من أفكار خاطئة تتبناها أدمغتنا ، ومع تصحيح شيء من تلك الأفكار ستزداد حياتنا سعادة ، ولا أعدك في كلماتي هذه أن أريك حلاً سحرياً سيجعلك تطير من الفرحة بعد قليل ، لكني سأختصر لك شيئاً من كتب علم النفس التي من شأنها أن تُشعرك بالمزيد من الارتياح والسعادة ... وتذكر أننا نتحدث هنا عن الاكتئاب وجلد الذات .
الحياة ليست عالماً وردياً كما تعلم ، وأحياناً نتخذ قرارات وأفعال ثم نرى أننا خسرنا وفشلنا أو أُحبِطنا وخاب أملنا ، فتخيم الكآبة في صدورنا ، ونبدأ بالتذمر من أنفسنا والحياة والآخرين ، وهذا التصرف مرتبط بطفولتنا ... وسأوضح لك ذلك .
الإنسان بفطرته يسعى إلى الأفضل ، وبمجرد أن يصبح طفلاً مدركاً تتبادر إلى ذهنه رغبة العيش بسعادة ، لكنه ولقلة وعيه بالحياة سرعان ما يُحول تلك الرغبات إلى متطلبات لا محيص من حدوثها ، فينتقل الطفل مثلاً من "أرغب في النجاح وأن أحصل على إعجاب أهلي" إلى "علي أن أنجح وعلى أهلي أن يعجبوا بي" ... وهكذا هَلم جراً ، لذا تراه إن لم يتحصل على متطلباته التي يفترض وجوب تحققها ينفر ويغضب ويبكي ويعلو صياحه رافضاً حدوث عكس ذلك .
نعم نحن نكبر وندرك الحياة بشكل أفضل ، إلا أننا نستمر في تحويل رغباتنا إلى متطلبات نفترض وجوب حدوثها ، وصحيح ليس كل رغباتنا تتحول إلى ذلك ، إلا أن كل الخسائر المؤلمة وخيبات الأمل الشديدة والتي تخلِّف فينا شعوراً بالكآبة وتدعونا للقسوة على الذات نابعة من رغبات قمنا بتحويلها إلى واجبات .
هبني ذاكرتك واسترجع إحدى خيبات الأمل التي جعلتك تشعر بشيء من الكآبة ... سترى أنها إحدى هذه الثلاثة مواقف :
• الشعور بإحباط عندما قلت لنفسك : " كان يجب أن يكون أدائي أفضل .. كان يجب أن أنجح وأحصد الإعجاب ... أفعالي كانت مهولة ... اقترفت خطئاً ... أنا شخص غير جدير بالإعجاب" .
• الشعور بخيبة الأمل والغضب عندما قلت لنفسك " لماذا لا يعاملني هؤلاء الناس كما أعاملهم ، كان عليهم أن يعاملوني بذات اللطف ... ألا يرون أني أستحق هذا ... لماذا لم يفعلوا .. هم سيئون حقاً" .
• الشعور بالضيقة والسآمة عندما تقول لنفسك " لماذا ظروف الحياة هكذا ، أنا شخص جيد ، لا أستحق كل هذه الظروف السيئة ، الحظ ليس بجانبي ، لم أعد أطيق شيئاً منها " .
( أدري أنك بينك وبين نفسك ما تسولف فصحى يا أمرؤ القيس ... اقصد نفس المعنى خو 😜)
كُنتَ طفلاً طموحاً ورائعاً لذلك فرضت على نفسك إحدى هذه الثلاثة حوارات ، أو كنت مدللاً بعض الشيء ويوفر لك أهلك كل الحب والأمنيات التي ترغب بها واعتدت ذلك ، لكنك اليوم أصبحت راشداً ... ولا يصح لك أن تعيش الحياة بأحلام الأطفال ومتطلباتهم ، فهي حتماً ستجلب لقلبك مشاعر الكآبة بين الحين والآخر ، وستجعلك تقسو على نفسك وتبالغ في نقدها .
انظر للحياة من حولك ... ما تتوقعه وتطلبه من الآخرين من أن يعاملوك بعدل واهتمام على الدوام .. لن يحدث .. انسَ الأمر .. سيكونون غالباً منهمكين في إرضاء أنفسهم ورغباتهم .
أما بالنسبة للظروف والحياة ... فلن تعطيك الحياة ما تريد لأنك فقط تريد ، آسف لذلك لكنني مضطر أن أقول لك أن العالم لا يعبأ لرغباتك ، ولا يهتم لمتطلباتك ، وليس لديه أي اهتمام شخصي بتحقيق مصالحك ، الكون لا يكرهك أو يحبك بل يواصل دورانه دون اكتراث بأي أحد ، والأشخاص الذين يعيشون فيه عليهم احداث الفرق بأنفسهم .
أما على الصعيد الشخصي ... فالبشر بطبيعتهم معرضون لأخطاء التفكير والضعف ويتأثرون بالمضايقات وما أشبه ، وستكون واهماً لو ظننت أنك ستنجح دوماً ... دماغك ليس باستطاعته هذا .
كل المواقف التي أُحبطنا فيها واكتأبنا منها وبالتالي انتقدنا أنفسنا هي مواقف انطلق فيها ذلك الطفل الذي ما زال يقبع في منطقة اللاوعي رافعاً متطلباته الغير منطقية والتي هي في الأساس مجرد رغبات نستحسنها .
عندما يرى طفلك (اللاوعي الذي يُحدثك عند التفكير) الحياة على حقيقتها لن يفهمها ، أو لا يريد أن يفهمها ، سيصرخ ويقسو عليك وسيلومك وسيجلد نفسه والتي هي أنت ... هو يريد متطلباته المفروضة فقط .
لنعد يا عزيزي القارئ إلى سؤال مطلع المقال / لنفرض أنك ارتكبت خطئاً فانفصلت عن شريك حياتك .. ماذا قلت لنفسك ؟ هل وبختها ومسحت فيها بلاط الأرض ؟ هل اتهمتها بالفشل والعجز ؟
مهلاً ... صحيح أنك ترغب في أن تكون رائعاً في تصرفاتك ، وتتطلع أن يغفر لك شريك حياتك لو أسأت التصرف فلا ينسى تاريخ الفضل بينكما ... لكن ماذا لو أخطأت ولم يغفر لك ؟ هل هي نهاية العالم ؟
نعم أداؤك كان سيئاً في بعض المواقف ، لكنك أيضاً كنت لطيفاً في كثير من المواقف الأخرى .. وهذه طبيعتك البشرية التي لا مفر منها ، فلماذا تطلب من نفسك أن تكون لطيفاً فقط .. من الذي افترض أن تصرفاتك لن تخونك يوماً ما ؟!
أنت لست فاشلاً البتة أو ناجحاً تماماً ... أنت خليط بينهما ، وكلنا كذلك ، فلا تلوم نفسك ، ولا تحكم عليها بالمجمل ، لا تسمح لذلك الطفل الذي في داخلك أن يقسو عليك صارخاً في وجهك لأن افتراضاته الخيالية لم تتحقق .... نعم كان من الجيد أن تكون أفعالك دائماً رائعة لكنك بشر وهذا لن يحدث .. ولا بد من أن تسيء التصرف يوماً ... وهي ليست نهاية الحياة ... إنها طبيعتنا التي تتكرر .
وشريك حياتك ليس سيئاً مطلقاً حين أنهى المودة بينكما ... هو بشر ويبحث عن إرضاء رغباته أيضاً .
عزيزي القارئ ... أرجو أن لا تضعك الحياة في اختبار آخر يخلِّف فيك شعوراً سيئاً .. لكنها الحياة وستفعل ذلك شئنا أم أبينا ، لذلك في المرة القادمة وعندما تشعر بالاكتئاب وتقسو فيها على نفسك تأمل جيداً ما الذي يُحزنك ... سترى أنها أمور سيئة بلا شك ، لكنها في الحقيقة مجرد تفضيلات ورغبات ، ليست متطلبات في عدم تحققها نهاية العالم ، هي أشياء نودها لكنها قد لا تكون لنا لأن الحياة لا تمضي دائماً وفق ما نتمنى .
ولستَ شخصاً سيئاً أو غير كفء بالمجمل لأنك قمت بهذه الأفعال الطائشة أو الغبية ، فلا شك أنك قمت بالكثير من الأفعال الحسنة غيرها ، وحتى الآخرين الذين أساؤوا معاملتك ليسوا أشراراً بالمجمل ... هم مثلك ، لديهم أفعال حسنة وأخرى سيئة ، فلماذا تصر على أن يكونوا دائماً جيدين معك ... هم بشر وتخونهم تصرفاتهم فلا تفرض غير ذلك ... التقييم المطلق فكرة حمقاء ابتعد عنها .
إن ارجاع متطلباتك إلى مجرد تفضيلات ورغبات سيُحول كآبتك الشديدة إلى مجرد استياء ... ونعم هو ليس شعوراً رائعاً أيضاً لكنه لن يحطمك كما تفعل الكآبة الناتجة عن المتطلبات التي تفرضها على نفسك .
عندما تُريد أن تُقيم نفسك – وهذا ما تفعله يومياً – فأنت تستخدم مفردات معينة تُخاطب بها نفسك ، فإن كان لا وعيك وضع الرغبات في اطار الرغبات لا أكثر لن تقسو على نفسك بتلك المفردات وستشجعها على عمل المزيد من النجاح وتقبل الهزيمة بصدر رحب رغم كرهك لها .
بينما لو عبث ذلك الطفل واستخدم ألفاظ التي تفرض حدوث رغباتك لا محالة ، والتي لا شك أنها ستصطدم بالواقع والمجتمع اللذان يحولان دون ذلك ، فحينها ستقسو على نفسك وتوبخها ، وبالتالي ستشعر بالعجز والفشل وتتبدل تصرفاتك نحو الأسوأ ، كما حدث مع أدالاين فرجينيا .
سيدي ... خذ دقيقة من التأمل وخاطب نفسك وقَيِّمها ... ماذا ستقول لها ؟
قف وتأمل ... هل وبختها أم شجعتها لتفعل الصواب في قادم الأوقات ؟
تذكر أن لا وعيك الذي يخاطبك عند فشلك وحزنك هو ذلك الطفل الذي لم تُعلمه الحياة بعد ، لذلك وفي نقاشاتك مع نفسك حاول أن تخرس الطفل إن حاول الاستنقاص منك على خلفية متطلباته الغير منطقية .
لا الخطأ يعني أنك فاشل .. ولا عدم تحقق ما تريد تعني نهاية الحياة .
لتكن لديك الشجاعة لتغير مساوئ الحياة التي يمكن تغييرها وتحقيق رغباتك ، وقوة القلب لتتقبل - دون أن تحب - الأشياء التي لا يمكن تغييرها ، والحكمة لتعرف الفرق بين الأثنين .
لكن إياك أن تظن أنك سيء عندما تفشل ... لقد كانت مجرد رغبات لم تحصل عليها .. وهي ليست نهاية الحياة ... لذا أرجوك لا تجلد نفسك .
إنها النصيحة التي قالها الله جل علاه لنبيه محمد صلى الله عليه وآله ، عندما فرض على نفسه أن يُقنع كل الناس بالإسلام ، وكان يتأسف بشدة لائماً نفسه على عدم إيمانهم .
قال تعالى : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } .

كم مرةً شعرت بحنينٍ إلى الماضي؟ إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية... لا شك أنك مررت بها يوماً ما، إذ يتسلل إلى قلبك شوقٌ غريب لذكريات عفا عليها الزمن متمنياً عودتها لشعورك بأنها أفضل من حاضرك، فهل كانت تلك الذكريات حقاً أجمل... ولماذا ينتابك هذا الإحساس أصلاً؟ في ورقة بحثية لبروفيسور علم النفس ديفيد نيومان David Newman درس فيها الحنين إلى الماضي، قام بسؤال المشتركين في التجربة عن مدى حنينهم إلى الماضي، وأسئلة أخرى تختبر مدى سعادتهم ومشاعرهم السلبية أو الإيجابية عندما يخالج قلبهم شعور الحنين هذا. وتَـوصَّل إلى نتيجة – لا أظنها صادمة لك سيدي القارئ – أن ميل الإنسان إلى الحنين إلى الماضي مرتبط بالمشاعر السلبية كالحزن أو الندم أو حتى الاكتئاب، بينما المستويات العليا من الحنين إلى الماضي مرتبطة باضطرابات الهوية وفقدان معنى الحياة. فالأشخاص الذي قيموا أنفسهم على أنهم أكثر حنيناً إلى الماضي كانوا يعانون من عواطف سلبية بل ينظرون أحياناً إلى الحياة بسوداوية، على عكس أولئك الذين قيموا أنفسهم على أنهم أقل حنيناً. وفي ذات الورقة البحثية درس البروفيسور ديفيد مجموعة أخرى من الأشخاص على مدار أسبوعين، فحص فيها مدى حنينهم إلى الماضي والمشاعر التي تنتابهم على مدار اليوم. وكانت الأيام التي شعر فيها الناس بالحنين إلى الماضي هي غالباً ذات الأيام التي مروا فيها بأحداث أو مشاعر سلبية. وبما أن الدراسة تستقصي مشاعرهم يومياً، كان من الممكن بسهولة ملاحظة كيفية تأثير مشاعر اليوم على الغد، وكانت النتائج تشير بوضوح بأن الأيام التي شعر الناس فيها بالوحدة مالوا إلى الشعور بالحنين إلى الماضي في اليوم التالي، والأيام التي شعروا فيها بالحنين إلى الماضي أعقبتها أيام كانوا يميلون فيها إلى التفكير بالأشياء السلبية ويعيشون بعضاً من المشاعر الكئيبة. أي يمكن القول باختصار أن الشعور بالحنين إلى الماضي غالباً ما ينتج عن مشاعر سلبية كالوحدة، ويسبب تفكيراً سلبياً للمستقبل... لكن مهلاً الأمر ليس بهذه المشأمة أو التعاسة المطلقة... هناك جانبٌ مشرق. (أنا مو كاتب مقال عشان أطين عيشتك... انطر للنهاية 😜) هبني قبل ذلك أوضح لك الخدعة التي يقوم بها الدماغ هنا، فمعرفة كيف تجري الأمور في ذهنك ستجعلك تنظر للحنين إلى الماضي بطريقة مغايرة. في بادئ الأمر... الماضي ليس بتلك الجمالية التي تخبرك بها ذكرياتك. الدماغ البشري لا يسجل الذكريات بصورتها الحقيقية وبشكل محايد -أي كما نقول بحلوها ومرها- بل يميل إلى تذكر الأحداث الإيجابية بشكل أوضح بكثير من السلبية خاصة مع مرور الزمن، وهذا ما يُسمى في علم النفس بظاهرة "تحيز الذاكرة الإيجابية" Positive Memory Bias، فأنت مثلاً تتذكر تلك السهرة العائلية الممتعة في طفولتك، إلا أنك لا تتذكر معها المشكلات والتوترات التي عاشتها عائلتك في تلك الفترة، وهذه آلية دفاع نفسية يلجأ لها الدماغ ليقلل عن نفسه التوتر والقلق المرتبط بالزمن الحالي. وأذكر هنا دراسة أجراها البروفيسور Tim Wildschut شملت أكثر من 500 مشارك، سُئلوا عن تجارب الحنين إلى الماضي، وكانت النتيجة أن 79% من المشاركين استرجعوا ذكريات إيجابية عن ماضيهم، رغم اعترافهم لاحقاً بأن ظروف تلك الفترات لم تكن مثالية... بل وربما سيئة. أضف لذلك أن الدماغ ينظر للماضي -الذي نجوت منه وها أنت حيٌ الآن- على أنه أكثر أماناً من الحاضر بل وسيلة تلجأ لها من قلق الحاضر، خاصة عندما يواجه المرء ضغوطاً ومسؤوليات في الحاضر لا يدري إن كان سينجو نفسياً منها أم لا، والتي غالباً لم يكن يحمل عبئها أيام صباه أو في الماضي. وأما الأشخاص الأكبر سناً والذين عَـفَّـرت الحياةُ بهم الأرض، فهذه الضغوط التي تجعلهم يشعرون بحنين إلى الماضي غالباً ما تكون أزمات على مستوى الهوية أو الشعور بفقدان المعنى، وهذا الأمر شائع مع الأشخاص الذين يمرون بتغيرات كبيرة كالطلاق والتقاعد والبطالة... وهلم جراً. وفي دراسة للبروفيسور Tim Wildschut أيضاً (إلي انت طنشت اسمه قبل اشوي وطنشت اسمه الحين 😜) عرض على مجموعة من المشاركين مشاهد محبطة أثارت فيهم الشعور بالقلق أو الحزن، ثم طلب من نصفهم كتابة ذكريات من الماضي، وكانت النتيجة أن المشاركين الذين استدعوا ذكريات الطفولة، انخفضت مؤشرات القلق عندهم وزادت مشاعر الدفء العاطفي والانتماء، على عكس أولئك الذين لم يلجؤوا لذكرياتهم. وهناك جانب آخر بيولوجي... فمع التقدم في العمر تتغير طريقة معالجة الدماغ للذكريات، فالدوبامين -وهو ناقل عصبي مرتبط بالتحفيز والمكافأة- تقل فاعليته وينخفض مستواه في مرحلة لاحقة من العمر، مما يجعل الأحداث الجديدة في حياتك أقل إثارة وتشويقاً، بينما في المقابل تكون الذكريات القديمة قد حُفظت بشكل مثبت في الدماغ، ويكون استدعاؤها أسهل مما يعطي شعوراً مخادعاً بأنها أفضل... وهي حتماً ليست كذلك. نعم يا سيدي القارئ... الدماغ يصبح مملاً بعض الشيء مع التقدم بالعمر... إنها الحياة. 😢 الآن لننتقل إلى الجانب الإيجابي.... كفاناً نكداً.. أليس كذلك سيدي القارئ 😜 -كما قلت قبل قليل- يلجئ الدماغ إلى الحنين إلى الماضي ليخفف عن نفسه وطأة حاضره وقلقه، فهي كما نسميها في علم النفس "حيلة دفاعية" يلوذ بها الدماغ، لذا فهي -من الناحية النفسية- أشبه بعلاج يبتكره الدماغ لنفسه، لذا فهذا الشعور -رغم سلبيته- إلا أنه يدفع عنك ما كان أثقل حملاً وأشد جهداً، فالحمد لله الذي ألهم الدماغ هذا الشعور. وقبل الانتقال لنقطة أخرى إليك هذه الدراسة... أجرى الدكتور كلاي روتليدج Clay Routledge وفريقه البحثي من جامعة ولاية نورث داكوتا دراسة حول الحنين إلى الماضي وأثره على بيئة العمل. قدم الباحثون عدة استبيانات إلى المشاركين في التجربة، وهم مجموعة من الموظفين في شركات كبرى، وتم تقسيم الموظفين إلى مجموعتين. عُرض على كل فرد من المجموعة الأولى صور ومقاطع فيديو تعيدهم إلى لحظات نجاح سابقة عاشوها في الشركة، بينما المجموعة الثانية طُلب منهم التفكير في التحديات الحالية دون توجيههم إلى تذكر لحظات النجاح السابقة. أظهرت نتائج الدراسة أن المجموعة التي أعادوها إلى ذكرياتها السابقة كانت أكثر ميلاً نحو الإبداع وتحمل المخاطر لبضعة أيام لحقت التجربة، وأشار العديد من المشاركين في المجموعة الأولى أن تلك الذكريات عززت شعورهم بالانتماء ورفعت من معنوياتهم في الأوقات الصعبة. وأظهرت البيانات أن الحنين إلى الماضي ساعد في تحسين علاقات الموظفين مع بعضهم البعض، مما ساهم في زيادة التعاون ورضاهم عن العمل. أي أن الحنين إلى الماضي خلق بيئة إيجابية لتحمل ضغوطات الحاضر في العمل، وزاد من تكاتف الموظفين شعورياً... نعم إن له هذا التأثير الساحر!! ونحن البشر نمتلك قدراً رائعاً من التعاطف والمقدرة على فهم مشاعر الآخرين (إذا أنت ما تتعاطف مو محسوب علينا من البشر... شوف لك صنف أحيائي ثاني 😒)، وعندما نرى أمرؤاً يتوق للماضي فلا أظن أننا سنجد صعوبة في استيعاب أنه يشكو من حاضره أو أن هناك شيئاً ما أرهقه، وهذا ما قد يثير فينا عاطفة اتجاهه وبالتالي مساندته ودعمه وتقديم مشاعر المؤاساة له، ولعل دماغك قادك إلى الحنين إلى الماضي وبـثِّـه إلى الآخرين كبديل -أكثر عزة نفس وكبرياء - عن التذمر. وكثيراً ما أصادف منشورات في برامج التواصل الاجتماعي أو أستمع في أحاديث جانبية مع الأصدقاء ذلك الحنين إلى الماضي، وارتأيت أن أكتب هذا المقال لعله يوضح أو يقدم شيئاً لهم. سيدي القارئ... إن الحنين إلى الماضي تجربة إنسانية بامتياز، لا شك أننا سنشعر بها بين الحين والأخر، إنها ملاذ آمن يلوذ به الدماغ ليتخلص من ثقل الحاضر، نعم سيجلب لك بعضاً من المشاعر السلبية، بل ولربما يُضـيِّـق في عينيك رحيب الدنيا، وآمل ألا يحدث هذا.... وإن حدث فتأكَّد أن الماضي لم يكن بهذا الجمال فعلاً كي تتوق إليه، وأن الحياة وحاضرك حتماً لن يكونا عالماً وردياً، وستمر -كما مر غيرك- بالعديد من المصاعب والآلام ليس لأن الدنيا تكرهك اليوم وكانت تحن عليك بالماضي، بل لأن هذا جزء أصيل من الدنيا لا يتجزأ، فالحياة لا تكرهك أو تحبك هي تدور فقط دون اكتراث... فاخشوشن وواجها، واصنع بنفسك حاضراً أجمل من ماضيك، فأنت لا تمتلك أداة العودة للماضي لتحن إليه، لكن بيدك الآن أن تغير حاضرك للأجمل. ومهلاً... نحن هنا... زملاؤك البشر... حنينك إلى الماضي يحرك فينا مشاعر اتجاهك تجعل الحياة أكثر وداً ولطفاً. وذرني أبوح لك بما في قلبي سيدي القارئ... أنا أيضاً أحن إلى الماضي... لكن أحاول أن أغير حاضري للأجمل.

كم مره خنت فيها شعورك وأبديت إعجابك بأشياء لا تستحسنها؟ في عام 1897م اندلعت حرب بين الدولة العثمانية واليونان وكانت محط اهتمام الطبقة السياسية والنخب العليا، أما عوام الناس فكان "كُـلّا يدعي في الهوى وصل ليلى" والكل يريد الحديث عن هذه الحرب الطاحنة والتظاهر بالاهتمام كي يوحي للآخرين امتيازه الثقافي. إبان الحرب زارت بعض النسوة من الطبقة المخملية بيت الكاتب الروسي الشهير أنطون تشيخوف، والذي كان برفقة زميله الكاتب مكسيم غوركي، وسألنه عن رأيه حول هذه الحرب، فجلس يتأملهن... يرى وجوهاً بلهاء لا تعي المآسي التي تُخلفها الحروب، يتظاهرن بالاهتمام، فأجابهم بكل هدوء أن السلام هي النتيجة المرجحة لهذا الصراع. لم تكن تلك الإجابة التي يردن سماعها، فضغطن عليه كي يخبرهم أي الطرفين مرشح للفوز، فأجابهم بكل بساطة والابتسامة تملأ وجهه: "أعتقد أن الأقوى هو من سيفوز"، فزاد ضغطهن عليه ليُخبرهم من هو الطرف الأقوى، فقال "لا أشك أن الطرف الذي يحصل على تغذية أفضل وتعليم أفضل هو الأقوى". فسألنه بإلحاح "أي من طرفي الحرب تفضله شخصياً عن الآخر؟"، فقال بوجه مشرق: "سيداتي أنا أُفضل مربى البرتقال... هي تفضيلي الشخصي، هل تفضلونها أنتن" اندفعن بكل حماس للحوار عن المربى ونكهاتهن المفضلة، موضحات معرفتهن الواسعة بطرق تحضيرها، فكشفن اهتمامهن الحقيقي بالطعام بدلاً من التظاهر السابق بالانخراط في الخطاب السياسي، أما هو فكان يشاركهن الحوار بكل أريحية وسعادة. وما إن انتهين من جلستهن واستعدوا للمغادرة وَعَـدنَ تشيخوف بإرسال هبات سخية من مربى البرتقال، وشكرنه على حسن حواره ولطافة خطابه، فقد سُعدن حقاً بذلك، وبعد أن غادرن أثنى زميله غوركي على حواره معهن، فضحك تشيخوف وقال: "ما كان عليهن التظاهر... من الأفضل لكل إنسان أن يتحدث لغته الخاصة". فهل تتفق مع تشيخوف... أن على كل إنسان ترك التظاهر وأن يكون مخلصاً لما في داخله؟ لا شك أنك في وقت ما حاولت كبت مشاعرك وعدم إظهارها للآخرين، أو لعلك -وأرجو أن أكون مخطئاً- أبديت مشاعر زائفة لا تترجم ما في قلبك، ولو عدت في ذاكرتك واسترجعت سبب قيامك بذلك، فمن المرجح أن يكون السبب هو احترام مشاعر الآخرين، أو الحصول على مشاعر إيجابية منهم كالثقة أو المودة أو التعاطف. وأود بكل سعادة أن أزف لك البشرى... محاولتك لم تجدي نفعاً، لا تحاول تكرارها أرجوك، فمهما حاولت التمثيل والتظاهر بغير ما تشعر به فمن المرجح أنك ستحصل على نتيجة عكسية. أولاً إن تظاهرت سيُكشف أمرك.... إن أدمغتنا نحن البشر تمتلك قدرة جيدة على التفريق بين المشاعر الزائفة والحقيقية، فحتى الأطفال الرضع قادرين على ذلك بشكل رائع، ففي دراسة نفسية نُشرت عام 2015 في مجلة The Official Journal of the International Society on Infant Studies أظهر باحثو علم النفس من جامعة كونكورديا أن الرضع في وقت مبكر من العمر -18 شهراً- يمكنهم اكتشاف ما إذا كانت مشاعر الشخص حقيقية ومبررة أم لا. فكان الأطفال عندما يرون أحد أقاربهم تنكسر إحدى أدواته ثم يتظاهر بالحزن كانوا لا يبدون أي تعاطف معه، بينما القريب الذي يتعرض لذات الموقف وتبدو عليه مشاعر حزن حقيقية كان الأطفال يتعاطفون معه ويحاولون ببراءتهم التخفيف عنه. هل تـتذكر آخر موقف حاول أحدهم التظاهر أمامك بمشاعر زائفة، وكنت تعلم في قرارة نفسك أن مشاعره غير صادقة، هل تتذكر كيف كان الأمر واضحاً لك بينما يظن هو أن تمثيله جيد؟ حسناً الأمر ينطبق عليك كذلك، لست ممثلاً بارعاً.

ماذا لو اختفيت اليوم من الحياة... هل سيتأثر المحيطون بك؟ هل سينقص الحياة شيء؟ بعد يومٍ مرهق من العمل كانت جالساً في غرفتي شارد الذهن، فسمعت صوت أمي تسأل من في المنزل عني "هل ما زال هاشم موجود أم خرج؟"، فتسللت إلى ذهني حينها مقولة الفيلسوف رينيه ديكارت "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، لذا أردت الخروج من غرفتي لأخبر أمي ممازحاً أنني كنت هنا أفكر فإذاً أنا موجود. لكن أمي شتت أفكاري ودمرت ما تبقى سليماً من عصبونات دماغي ولم تذر لي أي باقية من صلابتي النفسية، إذ سمعتها تقول لمن سألتهم "هاشم موجود فهذا نعاله عند باب الغرفة.... هاشم تعال وارمي أكياس الزبالة". آه يا سيدي القارئ... لا أخفيك السر... لقد كانت صعقة نفسية، إذ كان دليل وجودي نعال.... وحاجتها مني أكياس القمامة لا أكثر. لست مفكراً... ولكن السؤال الذي سهر معي تلك الليلة هو " إلى أي مدى أنا مهم ومطلوب ومُلاحظ ومؤثر في هذه الحياة؟!" وأظنه سؤال يراود الكثير من الناس أحياناً، وليس سؤالاً فلسفياً أو ترفاً فكرياً، بل إن لجوابه أثر نفسي ينعكس علينا وعلى صحتنا ومشاعرنا... وهذا ما أود الحديث عنه في كلماتي اليسيرة هذه. نحن كبشر لن نقول لمن سألنا "كيف حالك؟" - أشعر اليوم بالأهمية شكراً لك.، ولكن هذا الشعور قد يجعلك تشعر بخير فعلاً. الاحساس بهذا الشعور لا يتطلب نيل جائزة نوبل للسلام، بل يكفي أن تكون مؤثراً بحياة الناس من حولك أو بمحيطك الذي تعيش فيه، وكلما كنت مطلوباً وملاحظاً ومؤثراً أكثر كلما زاد اعتقادك بأهمية وجودك. وعندما تكون بمنظورك ذا أثر وأهمية سترى ذاتك بنوع من التقدير والاحترام، مما ينعكس على شعورك بالإيجاب، وهذه النظرة للذات لا تـتعلق بالغرور وتفضيل النفس على الآخرين، بل تعني استثمار نقاط قوتك وأحاسيسك لأجل الحياة ومن فيها. إن حب ترك بصمة على الحياة فطرة نولد عليها وتخالج أنفسنا إلى حين الممات، وهذا ما أكده أستاذ الفلسفة وعلم النفس كارل جروس Karl Gross عندما كتب نظرية قَـيّـمة حول لعب الأطفال، قال فيها: إن الأطفال الصغار يشعرون بسعادة كبيرة عندما يعتقدون أنهم مؤثرين في العالم من حولهم، فالطفل مثلاً عندما يمسك دمية ويضغطها لتخرج صوتاً يضحك كثيراً، ليس لأن الصوت مضحك بل لأنه شعر بتأثيره في الواقع، ويكرر العملية ليعيد نشوة متعة الإنجاز وأهمية وجوده، والطفل الذي يُحرم من اللعب أو يلعب مراراً ويفشل بالتأثير على الواقع يشعر بانزعاج الكبير، بل لربما يتقوقع على نفسه ويتشوه نفسياً فيكون ضعيف الشخصية مستقبلاً غير مهيأ للإنجاز. وهناك بحث أجراه الدكتور إلين لانجر من جامعة هارفارد على مجموعتين من كبار السن نزلاء دار رعاية المسنين، أعطوهم جميعاً بعض النباتات التي ستزين غرف جلوسهم ونومهم وممرات الدار، وأخبر الدكتور إلين المجموعة الأولى أنهم المسؤولون عن إبقاء النباتات على قيد الحياة والعناية بها ورعايتها لتضفي المزيد من الجمال والمنظر الصحي للدار، بينما أخبر المجموعة الثانية أن النباتات لهم ولكن موظفو الدار هم من سيعتنون بها. بعد 18 شهر من الاهتمام بالنباتات والتأثير بالمنظر الصحي لدار الرعاية كان ضعف عدد نزلاء المجموعة الأولى على قيد الحياة مقارنة بالمجموعة الثانية. أي أن الشعور بالتأثير على الحياة وما يحيط بنا يجعلنا أفضل سواء على الناحية الصحية أو الشعورية أو حتى على بناء الشخصية. وفي بحث رائع نُشر أمس -وهو ما دفعني لكتابة هذا المقال- وجد الباحثان في مجال علم الأعصاب المعرفي روبرت تشافيز وتود هيثرتون أن التقييم الإيجابي لأهمية الذات واحترام الذات يكمنان في ذات المنطقة في الدماغ، فكلاهما في المسار الجبهي للدماغ والذي يربط قشرة الفص الجبهي الإنسي بالمخطط البطني، أي هما وجهان لعملة واحدة، وكلما كان تقدير الذات أفضل كلما تحسن أداء هذا المسار عصبياً، والمهم هنا أن قوة هذا المسار تُحسن مستويات السيروتونين "هرمون السعادة"، والذي هو حتماً يؤثر على المزاج العام ويقلل القلق، بل ويمنع خطر الإصابة بعدة أنواع من الاضطرابات العاطفية والنفسية كالاكتئاب وانعدام الشهية أو فرط تناول الطعام. وكتبا في البحث أن الأشخاص الذي يكون لديهم هدف نبيل يتعلق بالتأثير في الحياة والناس من حولهم يرتفع لديهم الدوبامين والسيروتونين والأوكسيتوسين وهي ناقلات عصبية تتحكم في الحالة المزاجية والحركة والتحفيز والتي يسمونها عادة "ثلاثية السعادة"، أي كلما كنت نبيلاً في تأثيرك فيمن حولك زادت سعادتك وتقديرك للذات. للتبسيط... ولكي أخرجك من دهاليز الدماغ هذه أقول إن احترام الذات من خلال الشعور بأهميتها يمنحها صلابة نفسية وثقة في النفس وسعادة تقيك من التكدر العاطفي والنفسي. وختاماً... هناك لَبسٌ يجب التنويه عليه، يخلط الكثير من الناس بين احترام الذات وتقديرها وأشياء أخرى لا علاقة لها بالاحترام أساساً، فمثلاً يظن البعض أن الاحترام والتقدير للذات يعني أن الإنسان يجب أن يوفر لنفسه كل متع الحياة طولاً وعرضاً، فيأكل كل ما تشتهيه نفسه ويشتري ما يحب كتقدير للنفس، وهذا خطأ، بل إن من الحيوانية أن يجعل الإنسان نفسه مسخاً يطلق العنان لرغباته، فوحدها الحيوانات التي لا تراعي سوى شهواتها وما تستلذ به، بينما الإنسان من المفترض أن يكون لديه قيم ومبادئ وتضحيات، وإلا فما فرقه عن الحيوان؟!! وكما ذكرت سابقاً ليس هناك أي ربط من قريب ولا بعيد بين الغرور وبين تقدير الذات، فالأفضلية تعني المزيد من المسؤولية اتجاه الحياة ومن فيها، بينما النظرة الفوقية على الآخرين مجرد نرجسية مرضية لا أكثر. لذا تبقى القاعدة الذهبية في أفضلية الذات والشعور بأهميتها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال فيه: "خير الناس أنفعهم للناس". أنت خير الناس ما دمت مؤثراً وهماً في منفعة الناس، وأنت مجرد مسخ لا أهمية لوجودك ما دمت منغمساً في ملذاتك.